كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

أَلَا يُرَى أَنَّا جَوَّزْنَا فَضْلًا فِي الْوَزْنِ فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلْوَازِنِ «زِنْ وَأَرْجِحْ» وَلَمْ يَجْعَلْهُ هِبَةً فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِمَّا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ، وَكَانَ مِنْ قِبَلِ مَا يَقَعُ التَّعَارُضُ بِصِفَةِ التَّطْفِيفِ صَارَ هِبَةً، وَكَانَ بَاطِلًا وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ التَّرْجِيحَ لَا يَقَعُ بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً بِانْفِرَادِهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ بِوَصْفٍ لَا يَصْلُحُ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِانْفِرَادِهِ كَرَجُلٍ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَى عَيْنٍ، وَأَقَامَ آخَرُ أَرْبَعَةً لَمْ يَتَرَجَّحْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِلَّةٌ انْضَمَّ إلَى مِثْلِهَا فَلَمْ يَصْلُحْ وَصْفًا، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِوَصْفٍ مُؤَكِّدٍ لِمَعْنَى الرُّكْنِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ التَّرْجِيحُ بِشَاهِدٍ ثَالِثٍ عَلَى الشَّاهِدِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ الْحُجَّةَ قُوَّةً، وَلَا الصِّدْقَ تَوْكِيدًا
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ تُسَمَّى زِيَادَةُ دِرْهَمٍ عَلَى الْعَشَرَةِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ رُجْحَانًا؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ تَقُومُ بِهِ أَصْلًا وَتُسَمَّى زِيَادَةُ الْحَبَّةِ وَنَحْوِهَا رُجْحَانًا؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ لَا تَقُومُ بِهَا عَادَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الشَّيْخِ مِنْ إحْدَى الْعَشْرَتَيْنِ حَقِيقَةَ الْعَشَرَةِ، وَمِنْ الْآخَرِ السَّنْجَةَ الَّتِي فِي مُقَابَلَتِهَا.
قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ مَعْنَى التَّرْجِيحِ شَرْعًا) أَيْ، وَكَمَا بَيَّنَّا مَعْنَى التَّرْجِيحِ لُغَةً فَهُوَ فِي الشَّرْعِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى أَيْضًا إذْ هُوَ فِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ إظْهَارِ قُوَّةٍ لِأَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ لَوْ انْفَرَدَتْ عَنْهُ لَا تَكُونُ حُجَّةً مُعَارِضَةً وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ صَاحِبِ الْمِيزَانِ التَّرْجِيحُ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ زِيَادَةُ قُوَّةٍ مَعَ قِيَامِ التَّعَارُضِ ظَاهِرًا.
وَعِبَارَةُ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ تَقْوِيَةُ أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لِيُعْلَمَ الْأَقْوَى فَيُعْمَلَ بِهِ وَيُطْرَحَ الْآخَرُ وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ اقْتِرَانِ أَحَدِ الصَّالِحَيْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ مَعَ تَعَارُضِهِمَا بِمَا يَقْوَى عَلَى مُعَارَضَةٍ فَقَوْلُهُ أَحَدِ الصَّالِحَيْنِ احْتِرَازٌ عَمَّا لَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا صَالِحَيْ الدَّلَالَةِ وَقَوْلُهُ مَعَ تَعَارُضِهِمَا احْتِرَازٌ عَنْ الصَّالِحَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا إذْ التَّرْجِيحُ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ التَّعَارُضِ لَا مَعَ عَدَمِهِ.
قَوْلُهُ: (أَلَا تَرَى أَنَّا جَوَّزْنَا) التَّوْضِيحَ لِمَا ذُكِرَ أَنَّ التَّرْجِيحَ فِي الشَّرْعِ كَالتَّرْجِيحِ فِي اللُّغَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ مَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ يَكُونُ وَصْفًا لَا أَصْلًا فَإِنَّا قَدْ جَوَّزْنَا فَضْلًا فِي الْوَزْنِ فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلْوَزَّانِ حِينَ اشْتَرَى سَرَاوِيلَ بِدِرْهَمَيْنِ «زِنْ وَأَرْجِحْ فَإِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ هَكَذَا نَزِنُ» وَلَمْ يَجْعَلْهُ أَيْ ذَلِكَ الْفَضْلَ هِبَةً حَتَّى مَنَعَ مِنْ الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الرُّجْحَانُ زِيَادَةُ تَقْوِيَةٍ وَصْفًا بِالْمَوْزُونِ لَا مَقْصُودًا بِسَبَبِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْفَضْلُ أَكْثَرَ مِمَّا يَقَعُ التَّرْجِيحُ كَالدِّرْهَمِ عَلَى الْعَشَرَةِ وَكَانَ مِنْ قَبِيلِ مَا يَقَعُ بِهِ التَّعَارُضُ بِصِفَةِ التَّطْفِيفِ يَعْنِي بِوَزْنٍ قُصِدَ فِي مُقَابَلَةِ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ صِفَةُ التَّطْفِيفِ.
صَارَ ذَلِكَ الْفَضْلُ هِبَةً حَتَّى كَانَ بَاطِلًا لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَيِّزًا كَهِبَةِ الْمُشَاعِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَقُومُ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَقْصُودًا بِالْوَزْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ مَقْصُودًا فِي التَّمْلِيكِ بِسَبَبِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا الْهِبَةَ فَإِنَّ قَضَاءَ الْعَشَرَةِ يَكُونُ بِمِثْلِهَا عَشَرَةً فَتَبَيَّنَ أَنَّ بِالرُّجْحَانِ لَا يَفُوتُ أَصْلُ الْمُمَاثَلَةِ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةُ وَصْفٍ بِمَنْزِلَةِ زِيَادَةِ وَصْفِ الْجُودَةِ، وَمَا يَكُونُ مَقْصُودًا بِالْوَزْنِ يَفُوتُ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الرُّجْحَانِ فِي شَيْءٍ.
1 -
قَوْلُهُ: (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ، وَلَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّرْجِيحَ لُغَةً وَشَرِيعَةً إنَّمَا يَقَعُ بِوَصْفٍ هُوَ تَابِعٌ لَا بِمَا هُوَ أَصْلٌ قُلْنَا فِي تَرْجِيحِ الْعِلَلِ: إنَّهُ لَا يَقَعُ بِمَا يَصْلُحُ عِلَّةً بِانْفِرَادِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ تَبَعًا، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِوَصْفٍ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً بِانْفِرَادِهِ، وَهُوَ قُوَّةُ الْأَثَرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ حَدِيثٌ وَاحِدٌ أَوْ قِيَاسٌ وَاحِدٌ، وَفِي الْآخَرِ حَدِيثَانِ أَوْ قِيَاسَانِ فَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ النَّظَرِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَبَعْضِ أَصْحَابِي إلَى أَنَّهُ يَصِحُّ التَّرْجِيحُ بِهَا؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْوَاحِدَ لَا يُقَاوِمُ إلَّا دَلِيلًا وَاحِدًا مِنْ جِنْسِهِ فَيَتَسَاقَطَانِ بِالتَّعَارُضِ فَيَبْقَى الدَّلِيلُ الْآخَرُ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارَضَةِ فَيَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّرْجِيحِ قُوَّةُ الظَّنِّ الصَّادِرِ عَنْ إحْدَى الْأَمَارَتَيْنِ الْمُتَعَارِضَتَيْنِ، وَقَدْ حَصَلَتْ قُوَّةُ الظَّنِّ فِي الدَّلِيلِ الَّذِي عَارَضَهُ دَلِيلٌ آخَرُ مِثْلُهُ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ فَيَتَرَجَّحُ عَلَى الْآخَرِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِلَّةَ الْمُنْتَزَعَةَ مِنْ أُصُولٍ تَتَرَجَّحُ عَلَى الْمُنْتَزَعَةِ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ لِتَقَوِّيهَا بِكَثْرَةِ أُصُولِهَا بِالْعِلَلِ الْمُنْتَزَعَةِ مِنْ أُصُولٍ، وَكُلُّهَا يَدُلُّ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ تَكُونُ

الصفحة 78