كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

لِأَنَّهُ يَنْعَكِسُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ وَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ وَلَا يَنْعَكِسُ تَعْلِيلُهُ؛ لِأَنَّ بَيْعَ السَّلَمِ لَمْ يَشْمَلْ أَمْوَالَ الرِّبَا، وَمَعَ ذَلِكَ وَجَبَ فِيهِ الْقَبْضُ احْتِرَازًا عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ.

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْحُدُوثَ مَوْجُودٌ بِصُورَتِهِ، وَمَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ وُجُودِهِ، وَيُقَوَّمُ بِهِ أَحْوَالُهُ الْحَادِثَةُ عَلَى وُجُودِهِ فَإِذَا تَعَارَضَ ضَرْبَانِ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا فِي الذَّاتِ وَالثَّانِي فِي الْحَالِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجِنْسِهِ يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فَيُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ فِي بَيْعِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ثُمَّ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَنْعَكِسُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ وَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ؛ لِأَنَّهُ أَيْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ بِدَيْنٍ يَعْنِي قَدْ عُدِمَتْ الْعَيْنِيَّةُ فِي هَذَيْنِ الْعَقْدَيْنِ فَعُدِمَ الْحُكْمُ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهَا، وَهُوَ عَدَمُ اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الصَّرْفِ النُّقُودُ، وَهِيَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ فَكَانَ دَيْنًا بِدَيْنٍ.
وَكَذَا الْمُسْلَمُ فِيهِ دَيْنٌ وَرَأْسُ الْمَالِ فِي الْغَالِبِ مِنْ النُّقُودِ أَيْضًا فَكَانَ دَيْنًا بِدَيْنٍ فَشُرِطَ فِيهِمَا الْقَبْضُ فَثَبَتَ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مُنْعَكِسٌ، وَلَا يَنْعَكِسُ تَعْلِيلُهُ أَيْ تَعْلِيلُ الْخَصْمِ؛ لِأَنَّ بَيْعَ السَّلَمِ لَمْ يَشْمَلْ أَمْوَالَ الرِّبَا أَيْ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَيْهَا إنْ جَازَ حَمْلُ الشُّمُولِ عَلَى الِاقْتِصَارِ يَعْنِي كَمَا يَكُونُ السَّلَمُ فِي مَالِ الرِّبَا بِأَنْ أَسْلَمَ دَرَاهِمَ فِي حِنْطَةٍ يَكُونُ فِي غَيْرِهِ بِأَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ ثَوْبًا أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ بَيْعَ السَّلَمِ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُشْتَمِلٍ عَلَى أَمْوَالِ الرِّبَا بِأَنْ أَسْلَمَ ثَوْبًا فِي عَدَدٍ مُتَقَارِبٍ. وَعِبَارَةُ التَّقْوِيمِ أَوْضَحُ مِنْ عِبَارَةِ الْكِتَابِ، وَهِيَ وَعِلَّتُهُمْ لَا تُوجِبُ الْعَدَمَ لِعَدَمِهَا فَإِنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي الْمَجْلِسِ فِي بَابِ السَّلَمِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى أَمْوَالِ الرِّبَا، وَمَعَ ذَلِكَ أَيْ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُشْتَمِلٍ عَلَى أَمْوَالِ الرِّبَا وَجَبَ فِيهِ الْقَبْضُ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ النَّسِيئَةِ بِالنَّسِيئَةِ فَثَبَتَ أَنَّ مَا ذَكَرُوا غَيْرُ مُنْعَكِسٍ بِبَقَاءِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْعَكِسًا فَهُوَ مُطَّرِدٌ، وَمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ بِمُطَّرِدٍ فَإِنَّ بَيْعَ إنَاءٌ مِنْ فِضَّةٍ بِإِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ يُوجِبُ الْقَبْضَ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِنْ كَانَا عَيْنَيْنِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ ثَوْبًا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى قُلْنَا الْأَصْلُ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ وُرُودُهُمَا عَلَى الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَرُبَّمَا يَقَعُ عَلَى عَيْنٍ بِدَيْنٍ وَيَتَعَذَّرُ عَلَى عَامَّةِ التُّجَّارِ مَعْرِفَةُ مَا يَتَعَيَّنُ وَمَا لَا يَتَعَيَّنُ فَأُقِيمَ اسْمُ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ مَقَامَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَعُلِّقَ وُجُوبُ الْقَبْضِ بِهِمَا تَيْسِيرًا عَلَى النَّاسِ وَوَجَبَ الْقَبْضُ بِهِمَا سَوَاءٌ وَرَدَا عَلَى دَيْنٍ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ بِعَيْنٍ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ فِي حُكْمِ الدَّيْنِ تَقْدِيرًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إذَا أُقِيمَ مَقَامَ شَيْءٍ فَالْمَنْظُورُ نَفْسُهُ لَا الشَّيْءُ الَّذِي هُوَ أُقِيمَ هُوَ مَقَامَهُ كَالنَّوْمِ لَمَّا أُقِيمَ مَقَامَ الْحَدَثِ عِنْدَ الِاسْتِرْخَاءِ، وَالسَّفَرُ لَمَّا أُقِيمَ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ لَمْ يُتَلَفَّتْ بَعْدُ إلَى حَقِيقَةِ الْحَدَثِ وَالْمَشَقَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْعَكِسًا مُوَافِقٌ لِلنَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ يَدٌ بِيَدٍ» أَيْ قَبْضٌ بِقَبْضٍ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَبْضٌ بِقَبْضٍ.
وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ» وَمَا ذَكَرْتُمْ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ فَكَانَ مَرْدُودًا. قُلْنَا: قَدْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ يَدٌ بِيَدٍ عَيْنٌ بِعَيْنٍ نَقْدٌ بِنَقْدٍ يُقَالُ لِمَا لَيْسَ بِنَسِيئَةٍ بَيْعُ يَدٍ بِيَدٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْيَدَ آلَةُ التَّعْيِينِ كَالْإِشَارَةِ وَالْإِحْضَارِ كَمَا هِيَ آلَةُ الْقَبْضِ، وَكَذَلِكَ الْقَبْضُ بِالْيَدِ لِلتَّعْيِينِ فَيَجُوزُ أَنْ يُعَبِّرَ بِالْيَدِ وَالْقَبْضِ عَنْهُ فَيَحْمِلُهُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَزِيدَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَقَوْلُهُ جَلَّ جَلَالُهُ {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] شَرْطًا لَيْسَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّسْخِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ.
وَلَا يُقَالُ قَدْ زِدْتُمْ اشْتِرَاطَ الْعَيْنِيَّةِ عَلَى الْكِتَابِ بِنَهْيِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ فَزِيدُوا الْقَبْضَ بِهَذَا النَّصِّ أَيْضًا؛ لِأَنَّا نَقُولُ انْضَمَّ الْإِجْمَاعُ، وَقَبُولُ الْأُمَّةِ إلَى هَذَا الْخَبَرِ فَيَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي خَبَرِ الْقَبْضِ فَافْتَرَقَا.

[الْقِسْمُ الثَّالِثُ بَيَانُ الْمُخَلِّصِ فِي تَعَارُضِ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ]
قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ) يَعْنِي مِنْ أَقْسَامِ أَوَّلِ الْبَابِ، وَهُوَ بَيَانُ الْمُخَلِّصِ فِي تَعَارُضِ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ فَإِنَّ التَّرْجِيحَيْنِ إذَا تَعَارَضَا يُحْتَاجُ إلَى تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ دَفْعًا لِلتَّعَارُضِ، أَحَدُهُمَا فِي الذَّاتِ أَيْ بِمَعْنًى رَاجِعٍ إلَى الذَّاتِ

الصفحة 97