كتاب الخطاب القرآني لأهل الكتاب وموقفهم منه قديما وحديثا

وقد قرر الواحدي رحمه الله أن الميثاق الذي أخذه الله على اليهود والنصارى في التوراة هو " بيان نبوة محمد رسول الله وصفاته ونعته, وعدم إخفاء ذلك, ولكنهم نبذوا الميثاق, ولم يعملوا به, وذلك قوله تعالى: (فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) " (¬1).
وقد علق الإمام الطبري على هذه الآية بقوله: "فالذين ينقضون عهدَ الله هم التاركون ما عهد الله إليهم من الإقرار بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - , وبما جاء به, وتبيين نبوته للناس، الكاتمون بيان ذلك بعدَ علمهم به، وبما قد أخذَ الله عليهم في ذلك، كما قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} (¬2)، ونبذُهم ذلك وراء ظهورهم هو نقضُهم العهدَ الذي عهد إليهم في التوراة الذي وصفناه، وتركُهم العمل به" (¬3).
وقد فصَّل القاسمي (¬4) معنى التبيين الواجب على أهل الكتاب بأنه: " إظهار جميع ما فيه من الأحكام والأخبار التي من جملتها أمر نبوته - صلى الله عليه وسلم - , وعدم الكتمان بعد الأمر بالبيان، _مؤكداً أن النهي عن الكتمان يعتبر_ مبالغة في إيجاب المأمور به, فطرحوا العهد والميثاق ولم يراعوه، ونبذُ الشيء وراء الظهر مما يؤكِّد الاستهانة به، والإعراض عنه بالكلية, كما أن جعله نصب العين علم في كمال العناية (¬5).
والذي تبين مما سبق أن أكثر المفسرين يؤكدون أن العهد والميثاق الذي أخذه الله على أهل الكتاب هو التصديق بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - , واتباع ما جاء به عن ربه سبحانه وتعالى, والأدلة على ذلك كثيرة, فمن هذه الأدلة: قوله تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (¬6)، فبعد أن ذكر الله في الآية السابقة أنهم كل ما عاهدوا عهداً نبذه بعضهم أتبعها بقوله تعالى:
¬_________
(¬1) انظر: الوجيز للواحدي (1/ 247).
(¬2) سورة آل عمران الآية: (187).
(¬3) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن (1/ 183) مرجع سابق.
(¬4) جمال الدين (أو محمد جمال الدين) بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي، من سلالة الحسين السبط: إمام الشام في عصره، علما بالدين، وتضلعا من فنون الأدب. عاش بين عامي: 1283 - 1332 هـ مولده ووفاته في دمشق، من مؤلفاته: تعطير المشام في مآثر دمشق الشام, وقواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث, تفسير محاسن التأويل. انظر: الأعلام للزركلي (2/ 135) مرجع سابق, معجم المؤلفين (3/ 157).
(¬5) انظر: محاسن التأويل (3/ 1061) المؤلف: علامة الشام محمد جمال الدين القاسمي, الناشر: دار إحياء الكتب العربية, الطبعة الأولى عام (1376 هـ 1957 م) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
(¬6) سورة البقرة الآية: (100).

الصفحة 298