كتاب كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم (اسم الجزء: المقدمة)

تقعدت على أساس الردّ إلى الأوزان، ومن الأوزان إلى التفعيلات الأساسية ومن التفعيلات الأساسية إلى المسلّمات، أي الثلاثي البسيط فعلا أو مصدرا.
وهذا يشابه تماما حركة (الاكسيوم) البديهيات في الرياضيات الحديثة، وعملية الردّ إلى مسلمات أولى يستند إليها النسق في نظم معيّن. ولا غرابة في مقارناتنا هذه لأنّ الهدف دفع الذهن نحو اكتشاف العلاقات الصورية، بالرغم من المماثلة بين منطق اللغة ومنطق العلوم.
والمصطلح يرافق اللغة وبنيانها النحوي، ويلحّ مبرزا إشكالية في أثناء اتصال الثقافات ببعضها وتلاقحها كمحاولة الغزالي «1». ولنا محطات بارزة في تاريخ اللغة العربية وروادا أوائل، تابع الآخرون خطاهم، مثل الكندي والفارابي قديما، والطهطاوي والبستاني حديثا. وقد شق هؤلاء وغيرهم دربا تعزّز، ثم انجمع في معاجم اختصت بالاصطلاحات. وفي الزمن المعاصر أشير إلى إلحاح المعنى الحادث المستجدّ، وأنّه يجنّ الكثير من الفعالية وعناصر التأثير في الفكر والعمل. لكن العودة إلى الأصل الثلاثي، البعد العمقي للبنيان، لم يلق انتباها عند البعض، بمثل ما تعتم ما تحصّل من مصطلح عند هذا البعض، فغدا المصطلح العصري تفلّتا من غير ضابط، فأدّى إلى عدم تأثيره في الذهنية، بل انتشر على وضع من التباين اللفظي في المفهوم الواحد. وهذا الأمر تشهده كثيرا عمليات الترجمة والنقل الحالية.
علما أنّ المصطلحات تخصّ اللسان وتطال المعنى، وهي في خاصية اللسان تكتسي صيغة العربية كسوة فتوسم بميسم أبعادها، وهي في محاولة إصابة المعنى تتعدّى كسوتها الخاصة لتنجمع على تصور يتعدّى دلالة اللسن. وكأن الفارابي وعى صعوبة ذلك والإشكالية فقال: علم اللسان ضربان: «حفظ الألفاظ الدالة عند أمة ما وعلم ما يدلّ على شيء شيء منها. والثاني علم قوانين تلك الألفاظ. والقوانين في كل صناعة أقاويل كلية أي جامعة ... » «2».
وكما ذكرنا من أنّ الدلالة العربية سارت مسارا طويلا، تنبّه له علماء أفاضل، فوضعوا جوامع أو معاجم لهذه المصطلحات، بعد أنّ تخطّت دلالات اللفظ مسارا
__________
(1) تميزت محاولة الغزالي بطبع المعاني المنطقية اليونانية بطبع العربية، حتى كادت المعاني تغترب أحيانا عن بعدها اليوناني آخذة الطبع العربي بخصوصيته والأبعاد للتوسع:
العجم، رفيق، المنطق عند الغزالي في أبعاده الأرسطوية وخصوصياته الاسلامية، بيروت، دار المشرق، 1989.
(2) الفارابي، احصاء العلوم، القاهرة، ط 1949، ص 3 - 4.

الصفحة 36