كتاب قصص من التاريخ

هذا الأدب كله، فماذا يُستخرَج لَعمري من تاريخنا الطويل الشريف الغني لو رُزقت العربية أديباً كدوماس أو كديكنز؟
ولست أعني التاريخ السياسي وحده، تاريخ القصور والملوك، بل أعني التاريخ العلمي أولاً؛ تاريخ القوم الذين باعوا نفوسهم لله مجاهدين في ميادين الطّروس (¬1) بأسنّة الأقلام، وهجروا لذلك لذائذهم، ونسوا حاجات بطونهم وغرائزهم، واطّرحوا رغبات الغنى والجاه وكل ما يتزاحم عليه الناس، واستهانوا في سبيله بكل صعب، حتى إنهم كانوا يرحلون الإبل أربعين ليلة، من مشرق الأرض إلى بغداد أو الشام أو الحجاز، في طلب مسألة مفردة أو حديث واحد. أحرقوا أدمغتهم فجعلوها مشاعل القرون الآتيات، فسارت «البشرية ...» في طريق الحضارة على ضوئها.
هذا التاريخ الذي أعنيه، هو تاريخ القضاة الذين استطاعوا في عصر كان الحكم فيه في الدنيا كلها حكما مطلقاً، وكانت حياة الناس معلقة بكلمة ينطق بها الحاكم، استطاعوا في هذا العصر أن يجعلوا لأنفسهم منزلة، وأن تكون لهم بكفاياتهم وبأخلاقهم حصانة دونها حصانة القضاة اليوم التي ضمنها لهم القانون. فاقرؤوا أخبارهم في كتب التاريخ والأدب والمحاضرات، وفيما أُفرد لهم من كتب (ككتاب الكندي في قضاة مصر، وكتاب قضاة
¬__________
(¬1) الطروس والأطراس جمع الطِّرس (بكسر الطاء)، وهو الصحيفة والكتاب يُمحى ثم يُكتب. ومنه التطريس، وهو إعادة الكتابة على المكتوب (مجاهد).

الصفحة 11