كتاب قصص من التاريخ

الأندلس، وكتاب قضاة الشام) تروا كيف كان أحدهم يستند إلى سارية المسجد وما معه إلا كاتبه، ما معه جند ولا شُرَط، ثم يحكم على الخليفة، وعلى الأمير، وعلى صاحب السلطان، فلا يُرَد له حكم ولا يستعصي على حكمه أحد. واقرؤوا مقدمة كتاب «الخراج» لتروا كيف كان أبو يوسف القاضي يخاطب أكبر ملوك الدنيا في عصره: هارون الرشيد!
هذه ناحية من أوسع نواحي العظمة في تاريخنا، لأن القضاء (منذ كان في الدنيا قضاء) هو مقياس الخير في الأمم، وهو معيار العظمة فيها، وهو رأس مفاخر كل أمة حية راشدة. وليس القاضي موظفاً كالموظفين (¬1)؛ فالموظفون، حتى الأمراء منهم والوزراء، أعوان الملك أو الرئيس وأتباعه، يأمرهم فيأتمرون ويدعوهم فيلبون، أمرهم من أمره وسلطانهم من سلطانه، يتكلم بألسنتهم ويبطش بأيديهم. أما القاضي فلا حكم عليه إلا لربه، ولا استمداد له إلا من قلبه؛ يتكلم بلسان الشرع، والشرع فوق الناس، ويحكم بحكم الله، وحكم الله على الجميع.
هذا هو التاريخ الذي أعنيه، لا تاريخ القصور وأهلها. وهذا الذي عُني به علماؤنا فألفوا فيه آلاف الكتب واستحدثوا منه علماً لم تعرفه أمة من الأمم قبلهم ولا بعدهم، هو «علم الرجال» الذي يميز صادق الرواة من الكاذب، والأمين من المزور، والمتثبت من المتساهل. وكان لأهل هذا العلم مثل «دوائر الاستخبارات» في الحكومات، وبها توصلوا إلى وضع قواعده ورفع دعائمه.
¬__________
(¬1) الوظيفة في اللغة المرتب، ولكنا آثرنا ما يقول الناس.

الصفحة 12