لَمْ تُؤْمِنوا ولكن قولوا أَسْلمنا ( الآية ) قال وهذا موضع يحتاج الناس إلى تَفْهيمه وأَين يَنْفَصِل المؤمِنُ من المُسْلِم وأَيْنَ يَسْتَويانِ والإسْلامُ إظهارُ الخضوع والقبول لما أَتى به النبي صلى الله عليه وسلم وبه يُحْقَنُ الدَّمُ فإن كان مع ذلك الإظْهارِ اعتِقادٌ وتصديق بالقلب فذلك الإيمانُ الذي يقال للموصوف به هو مؤمنٌ مسلمٌ وهو المؤمنُ بالله ورسوله غير مُرْتابٍ ولا شاكٍّ وهو الذي يرى أَن أَداء الفرائض واجبٌ عليه وأَن الجِهادَ بنفسِه وماله واجبٌ عليه لا يدخله في ذلك رَيْبٌ فهو المؤمنُ وهو المسلمُ حقّاً كما قال الله عز وجل إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يَرتابوا وجاهدوا بأَموالهم وأَنفسِهم في سبيل الله أُولئك هم الصادقون أَي أُولئك الذين قالوا إنّا مؤمنون فهم الصادقون فأَما من أَظهرَ قَبولَ الشريعة واسْتَسْلَم لدفع المكروه فهو في الظاهر مُسْلمٌ وباطِنُه غيرُ مصدِّقٍ فذلك الذي يقول أَسْلَمْتُ لأَن الإيمان لا بدّ من أَن يكون صاحبُه صِدِّيقاً لأَن قولَكَ آمَنْتُ بالله أَو قال قائل آمَنْتُ بكذا وكذا فمعناه صَدَّقْت فأَخْرج الله هؤلاء من الإيمان فقال ولَمّا يدْخل الإيمانُ في قُلوبِكم أَي لم تُصدِّقوا إنما أَسْلَمْتُمْ تَعَوُّذاً من القتل فالمؤمنُ مُبْطِنٌ من التصديق مثلَ ما يُظْهِرُ والمسلمُ التامُّ الإسلامِ مُظْهرٌ للطاعة مؤمنٌ بها والمسلمُ الذي أَظهر الإسلامَ تعوُّذاً غيرُ مؤمنٍ في الحقيقة إلاّ أَن حُكْمَه في الظاهر حكمُ المسلمين وقال الله تعالى حكاية عن إخْوة يوسف لأَبيهم ما أَنت بمُؤْمِنٍ لنا ولو كُنّا صادقين لم يختلف أَهل التفسير أَنّ معناه ما أَنت بمُصدِّقٍ لنا والأَصلُ في الإيمان الدخولُ في صِدْقِ الأَمانةِ التي ائْتَمَنه الله عليها فإذا اعتقد التصديقَ بقلبه كما صدَّقَ بلِسانِه فقد أَدّى الأَمانةَ وهو مؤمنٌ ومن لم يعتقد التصديق بقلبه فهو غير مؤدٍّ للأَمانة التي ائتمنه الله عليها وهو مُنافِقٌ ومَن زعم أَن الإيمان هو إظهار القول دون التصديقِ بالقلب فإنه لا يخلو من وجهين أَحدهما أَن يكون مُنافِقاً يَنْضَحُ عن المنافقين تأْييداً لهم أَو يكون جاهلاً لا يعلم ما يقول وما يُقالُ له أَخْرَجَه الجَهلُ واللَّجاجُ إلى عِنادِ الحقِّ وتَرْكِ قبولِ الصَّوابِ أَعاذنا الله من هذه الصفة وجعلنا ممن عَلِم فاسْتَعْمل ما عَلِم أَو جَهِل فتعلّم ممن عَلِمَ وسلَّمَنا من آفات أَهل الزَّيْغ والبِدَع بمنِّه وكرمه وفي قول الله عز وجل إنما المؤمنون الذين آمَنوا بالله ورسوله ثم لَمْ يرتابوا وجاهَدوا بأَموالِهِم وأَنفسِهم في سبيل الله أُولئك هم الصادقون ما يُبَيّنُ لك أَن المؤمنَ هو المتضمّن لهذه الصفة وأَن مَن لم يتضمّنْ هذه الصفة فليس بمؤمنٍ لأَن إنما في كلام العرب تجيء لِتَثْبيتِ شيءٍ ونَفْيِ ما خالَفَه ولا قوّةَ إلا بالله وأَما قوله عز وجل إنا عَرَضْنا الأَمانةَ على السموات والأَرضِ والجبالِ فأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَها وأَشْفَقْنَ منها وحمَلَها الإنسانُ إنه كان ظَلُوماً جهولاً فقد روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير أَنهما قالا الأَمانةُ ههنا الفرائضُ التي افْتَرَضَها الله تعالى على عباده وقال ابن عمر عُرِضَت على آدمَ الطاعةُ والمعصيةُ وعُرِّفَ ثوابَ الطاعة وعِقَابَ المعْصية قال والذي عندي فيه أَن الأَمانة ههنا النِّيّةُ التي يعتقدها الإنسان فيما يُظْهِره باللّسان من الإيمان ويؤَدِّيه من جميع الفرائض في الظاهر لأَن الله عز وجل ائْتَمَنَه عليها ولم يُظْهِر عليها أَحداً من خَلْقِه فمن أَضْمر من التوحيد والتصديق مثلَ ما أَظهرَ فقد أَدَّى الأَمانةَ ومن أَضمَر التكذيبَ وهو مُصَدِّقٌ باللسان في الظاهر فقد حَمَل الأَمانةَ ولم يؤدِّها وكلُّ مَنْ خان فيما اؤتُمِنَ عليه فهو حامِلٌ والإنسان في قوله وحملها الإنسان هو الكافر الشاكُّ الذي لا يُصدِّق وهو الظَّلُوم الجهُولُ يَدُلُّك على ذلك قوله ليُعَذِّبَ اللهُ المُنافقينَ والمُنافقات والمُشركين والمُشْرِكاتِ ويتوبَ اللهُ على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفوراً رحيماً وفي حديث ابن عباس قال صلى الله عليه وسلم الإيمانُ أَمانةٌ ولا دِينَ لِمَنْ لا أَمانةَ له وفي حديث آخر لا إيمانَ لِمَنْ لا أَمانةَ له وقوله عز وجل فأَخْرَجْنا مَنْ كان فيها من المؤمنين قال ثعلب المؤمِنُ بالقلب والمُسلِمُ باللسان قال الزجاج صفةُ المؤمن بالله أَن يكون راجياً ثوابَه خاشياً عقابه وقوله تعالى يؤمنُ بالله ويؤمنُ للمؤمنين قال ثعلب يُصَدِّق اللهَ ويُصدق المؤمنين وأَدخل اللام للإضافة فأَما قول بعضهم لا تجِدُه مؤمناً حتى تجِدَه مؤمنَ الرِّضا مؤمنَ الغضب أَي مؤمِناً عندَ رضاه مؤمناً عند غضبه وفي حديث أَنس أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال المؤمنُ مَن أَمِنَه الناسُ والمسلِمُ من سَلِمَ المسلمون من لِسانه ويَدِه والمُهاجِرَ من هَجَر السُّوءَ والذي نفسي بيده لا يدخلُ رجلٌ الجنة لا يَأْمَنُ جارُهُ بوائقَه وفي الحديث عن ابن عمر قال أَتى رجلٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وقال مَنِ المُهاجرُ ؟ فقال مَنْ هجَر السيئاتِ قال فمَن المؤمنُ ؟ قال من ائْتَمَنه الناس على أَموالِهم وأَنفسهم قال فَمَن المُسلِم ؟ قال مَن سلِمَ المسلمون من لسانِه ويده قال فمَن المجاهدُ ؟ قال مَنْ جاهدَ نفسَه قال النضر وقالوا للخليل ما الإيمانُ ؟ قال الطُّمأْنينةُ قال وقالوا للخليل تقول أَنا مؤمنٌ قال لا أَقوله وهذا تزكية ابن الأَنباري رجل مُؤمِنٌ مُصَدِّقٌ لله ورسوله وآمَنْت بالشيء إذا صَدَّقْت به وقال الشاعر ومِنْ قَبْل آمَنَّا وقد كانَ قَوْمُنا يُصلّون للأَوثانِ قبلُ محمدا معناه ومن قبلُ آمَنَّا محمداً أَي صدَّقناه قال والمُسلِم المُخْلِصُ لله العبادة وقوله عز وجل في قصة موسى عليه السلام وأَنا أَوَّلُ المؤمنين أَراد أَنا أوَّلُ المؤمنين بأَنّك لا تُرَى في الدنيا وفي الحديث نَهْرانِ مؤمنانِ ونَهْرانِ كافرانِ أَما المؤمنانِ فالنيلُ والفراتُ وأَما الكافران فدِجْلةُ ونهْرُ بَلْخ جعلهما مؤمنَيْن على التشبيه لأَنهما يفيضانِ على الأَرضِ فيَسقِيانِ الحَرْثَ بلا مَؤُونةٍ وجعل الآخَرَيْنِ كافِرَيْن لأَنهما