كتاب لمحات في الثقافة الإسلامية

بين الحُفَرِ في ظلامها وبرودها وعَفَنِهَا، ولم يحدث أن تسلمت ذروة عالية تُحِسُّ بها وجودها، أو تَنَسَّمت هواءً طلقًا تشعر فيه بمعنى حياتها وحريتها.. كانت تنتقل من ظلم إلى ظلم، ولا ترى أن مادة القيد قد تبدلت، أو أن حقيقة الأسر قد تغيرت، وإن اختلفت الصورة، وتغير شكل العبودية..؛ ذلك لأن هذه التجارب الجاهلية على اختلاف مصادرها ومراكز تسلطها، سواء أكانت إغراق الإنسان في موجات مادية أو غير مادية لا تعدو أن تكون كحَبَّات متنافرة حجمًا وشكلًا ولونًا، ينظمها سلك واحد أو هي من خيط العنكبوت، ذلك هو فساد العقيدة، الذي يتمثل في الكفر بالله، وإنكار اليوم الآخر، وجحود كرامة الإنسان، وتزوير فطرته التي فطره الله عليها.. لا فرق في ذلك بين جاهلية سادت العرب فجمدت معها العقول، وانحرفت النفوس، وفسدت الأخلاق، واضطربت المجتمعات، ونأت عن سبل العلم والحضارة.... وبين جاهلية سيطرت على أمم أخرى تفوق العرب عُدَّةً وعددًا، وكان لها من مضمار الحضارة المادية سبق ملحوظ، بما توافر لديها من طوائف الفلاسفة والعلماء.. غير أن كل هذا لم يكن إلا طِلَاءً رقيقًا زائفًا، لبناء خَرِبٍ مزعزع القواعد والأركان، فيه عناصر تدمير خطير لِمَا ينبغي أن تكون عليه الإنسانية من خيرٍ وأمنٍ وسلام.
إنَّ كل جاهلية سبقت الإسلام، سواء كانت جاهلية العرب أو الروم أو الفرس أو غيرها، إنما تعود -على ما بينها من فروق في الصور والأشكال- إلى أصل واحد، وتمارس في الحياة مهمة مشتركة، وتعمل لتحقيق هدف متماثل، شأنها في ذلك شأن الأوبئة، والأمراض الفتاكة، تختلف في أسبابها وأعراضها، وإن كانت تؤول إلى نتيجة واحدة هي: الموت والهلاك.
قال تعالى:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ

الصفحة 326