كتاب من أسرار التنزيل

( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ). فيكون هذا الكلام عائداً إلى الذين أشار اليهم قبل هذه الكلمة بقوله : (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ).
وإذا ثبت هذا فقوله : (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) عائد فى الأولى إلى منكرى النبوات ، وفى الثانية والثالثة إلى عبدة الأوثان ، فلا يلزم من وصف الكفار بهذا الوصف كون المؤمنين كذلك موصفين به.
ومما أشتهر التمسك به فى هذه المسألة قوله تعالى فى سورة طه : (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا). وأجيب عنه بأن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية أنه تعالى يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون علما بما بين أيديهم وما خلفهم. فالضمير فى قوله تعالى : (به). لا يكون عائداً إلى الله ، بل عائداً إلى ما بين أيديهم وما خلفهم ، لأن عود الضمير إلى أقرب المذكورين أولى.
وأعلم أن العمدة فى هذه المسأله أن الله سبحانه غير متناه فى الذات والصفات ، والعقل متناه فى الذات والصفات ، والمتناهى لا سبيل له إلا إدراك غير المتناهى ، وهذه هى النكتة المستحسنة ، ونحن نشرحها لتظهر قوتها أن شاء الله إن شاء الله فنقول :
الحجة الأولى :
العقل عاجز عن معرفة كونه تعالى قديما أزليا ً ، وذلك لأن كل ما يستحضره العقل استحضاراً على سبيل التفصيل من مقادير الأزمنة فذلك متناه ، مثلا نفرض قبل هذا الوقت ألف ألف سنة ، ونفرض بحسب كل لمحة من هذه المدة ألف ألف سنة ، وهكذا إلى أقصى ما يقدر الوهم والخيال على استحضاره ثم إذا تأمل العقل عرف ان كل ذلك متناه ، والحق سبحانه إنما كان قديما

الصفحة 139