كتاب من أسرار التنزيل

ازليا لأنه كان موجود قبل هذه المدة التى أحاط العقل والخيال بها فثبت أن كل مقدار يصل العقل والخيال اليه فالحق باعتبار أنه كان موجوداً فيما وراء ذلك الوقت ، بل باعتبار أنه كان موجوداً فيما وراء ذلك ، فإذاً لا سبيل للعقل ألبتة إلى معرفة القدم والأزل. وإذا عرفت هذه فى كونه أزلياً قديماً فاعرف مثله فى كونه دائماً أبديا.
فإذاً العقل لا سبيل له ألبتة إلى معرفة كونه دائماً أبدأ على سبيل التفصيل ، فإن كل ما يشير العقل اليه فازليته وأبديته خارجتان عن ذلك المقصود.
وأيضاً إذا قلنا : أنه كوجود ليس بجوهر ولا عرض ولا حال ولا محل ، فهذا ليس يقتضى معرفة ذات الحق سبحانه وتعالى ، لأنا أردنا بقولنا : موجود ، ما يناقض العدم فهذا المفهوم المناقض للعدم أمر يصدق على جميع الموجودات ، وحقيقة الحق سبحانه وتعالى لا توجد فى شئ سواه ، فالعلم بكونه موجوداً ليس علماً بحقيقة المخصوصية.
واما علمنا بكونه ليس جوهراً ولا عرضاً ولا جسماً فهذا علم بعدم هذه الأشياء ، وليس علماً بحقيقته ، لأن حقيقته ثابتة متحققة ، والسلب لا يكون نفس الثبوت ، فثبت بمجموع ما ذكرنا أنه لا سبيل للعقول إلى معرفة حقيقة الله سبحانه وتعالى.
وما يحقق ما ذكرنا أن العقلاء أتفقوا على أن كل صفة شاهدها الحس ، وأدركها العقل فى المكونات ، فلو وصف أحد بها الحق صار جاهلاً ، فإذاً لا طريق له فى معرفة الحق إلا بنفى كل ما عرفه ، ولهذا أتفقوا على أن أحسن كلمة قيلت فى التوحيد ما قاله على بن أبى طالب رضى الله عنه هى : أن تعرف كل ما يتصور فى ذهنك فالله سبحانه وتعالى بخلافه.
ثم قال المحققون : لما كان كل ما تتصور فى ذهنك فالله بخلافه ، فلو تصور فى ذهنك من ذلك الخلاف شئ فالله تعالى بخلافه ، ثم لو تصور فى هذه المرتبة الثانية أمر آخر لزم نفيه ، فلم يبق للعقل فى طريق معرفة الله سبيل إلا أن ينفى كل ما يقع فى خاطره ، ثم إذا وقع من هذا النفى شئ اشتغل بنفيه أيضاً ، وهكذا فى النفى الثالث ، والنفى الرابع إلى ما لا نهاية.
فلو نفى أبد الآبدين ودهر الداهرين لكان مشغولاً بهذا النفى. وإذا كان الأمر كذلك بقى الحق منزهاً لواحق الفكر ، وإشارة العقل ، وعلائق الضمير.

الصفحة 140