كتاب من أسرار التنزيل

الحجة الثانية :
وهى أن الإنسان عاجز عن معرفة نفسه. فإن قيل أن نفسه هى هذا الهيكل المشاهد فهو باطل من وجهين :
الأول : أن الإنسان قد يعرف ذاته حال ما يكون غافلاً عن جميع أعضائه الظاهرة والباطنة ، والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم ، والثانى أن ذاته من أول عمره إلى آخره شئ واحد ، وأجزاء بدنه من أول عمره إلى آخر عمره غير باقية ، والباقى مغاير لغير الباقى فثبت أن الإنسان ليس عبارة عن هذا الهيكل المحسوس.
ثم بعد هذا يحتمل أن يقال : إنه جسم فى داخل الهيكل ، إما فى القلب فقط ، وإما فى الدماغ فقط ، أو يكون مساوياً فى كل البدن : ثم ذلك الجسم أهو من جنس الأجسام التى تولد البدن عنها ، أهو جسم مخالف لهذه الأجسام فى الماهية والحقيقة.
ويحتمل أيضاً أن يقال : أنه ليس بمتحيز ولا حال فى المتحيز ، بل هو مدبر لهذا البدن على ما يقوله الفلاسفة.
واعلم ان هذه الإحتمالات بقيت من الزمان الأقدم إلى الآن ، وبعد ما زالت الشكوك والشبهات ، ولا شك ان أعرف المعارف فى الشئ المشار اليه بقولى : أنا ، فإذا كان هذا حالى فى معرفة أظهر الأشياء فكيف يكون حالى فى معرفة أبعد الأشياء مناسبة عن علائق العقول وروابط الخيالات.
وتحقيق الكلام فيه : أن العقل كالشمع ولا شك أن كل ما كان أقرب إلى الشمع كان ضره أكثر مما بعد عنه ، وأقرب الأشياء إلى الشخص نفسه ، فإذا كان نور العقل أضعف من أن يبصر ذاته ، فكيف يدرك حضرة الجلال مع بعده عنها بغير نهاية.
واعلم أنه كما وقعت الشبهات المذكورة فى معرفة النفس فقد وقعت أيضاً فى معرفة حقيقة الزمان وحقيقة المكان ، وتحير الخلق أن القوة الباصره كيف تبصر بحصول الشبح أو بخروج الشعاع ، وكذا البحث عن القوة السامعة ، والقوة الزائقة ، وتحيروا أيضاً فى البحث عن كيفية التخيلات ، فإن هذه الصور المتخيلة إن لم يكن لها وجود أصلاً فكيف يكون حصول التمييز والتعيين فيها.
وإن كان لها وجود فهى قائمة بأنفسها ، أو محلها شئ مجرد أو محلها جسم ، والكل محال ممتنع .

الصفحة 141