كتاب مدارج السالكين - ط عطاءات العلم (اسم الجزء: 2)

ومن هذا أيضًا: صدق الخبر، لأنَّه وجود المخبَر بتمام حقيقته في ذهن السامع. فالتمام والوجود نوعان: خارجيٌّ وذهنيٌّ، فإذا أخبرت المخاطَب بخبرٍ صادقٍ حصلت له حقيقة المخبَر بكماله وتمامه في ذهنه.
ومن هذا: وصفهم الرُّمح بأنّه صَدْق الكعوبِ إذا كانت كعوبه صلبةً قويَّةً ممتلئةً (¬١).

قال (¬٢): (وهو على ثلاث درجاتٍ. الدرجة الأولى: صدق القصد، وبه يصحُّ الدخول في هذا الشَّأن، ويتلافى به كلُّ تفريطٍ، ويتدارك كلُّ فائتٍ، ويعمر كلُّ خرابٍ. وعلامة هذا الصادق: أن لا يحتمل داعيةً تدعو إلى نقض عهدٍ، ولا يصبر على صحبة ضدٍّ، ولا يقعد عن الجدِّ بحال).
يعني بـ (صدق القصد) كمال العزم، وقوَّة الإرادة، بأن يكون في القلب داعية صادقة إلى السُّلوك، وميلٌ شديدٌ يقهر السرَّ على صحَّة التوجُّه. فهو طلبٌ لا يمازجه رياءٌ ولا فتور، ولا يكون فيه قسمةٌ بحالٍ.
ولا يصحُّ الدخولُ في شأن السفر إلى الله والاستعدادُ للقائه إلَّا به، ويُتلافى به كلُّ تفريطٍ، فإنَّه حاملٌ على كلِّ سببٍ ينال به الوصول، وقطعِ كلِّ سببٍ يحول بينه وبينه، فلا يترك فرصةً تفوته، وما فاته من الفرص السابقة تداركها بحسب الإمكان. فيُصلح من قلبه ما مزَّقته يدُ الغفلة والشهوة، ويعمِّر منه ما خرَّبته يدُ البطالة، ويوقد منه ما أطفأته أهوية النفس، ويلمُّ منه ما شعَّثته
---------------
(¬١) قال عنترة في «معلَّقته»:
جادَتْ له كَفِّي بعاجلِ طعنةٍ ... بمُثَقَّفٍ صَدْقِ الكعوبِ مُقَوَّمِ
(¬٢) «المنازل» (ص ٤٣).

الصفحة 643