كتاب مدارج السالكين - ط عطاءات العلم (اسم الجزء: 3)

فمن صعُبَ عليه الجود بماله فعليه بهذا الجود، فإنّه يَجتني ثمرةَ عواقبه الحميدة في الدُّنيا قبل الآخرة. وهذا جود الفُتُوَّة، قال تعالى: {وَاَلْجُرُوحُ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهْوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: ٤٥]. وفي هذا الجود قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: ٤٠]، فذكر المقاماتِ الثّلاثةَ في هذه الآية: مقام العدل، وأذِن فيه. ومقام الفضل، وندَبَ إليه. ومقام الظُّلم، وحرّمه.
التّاسعة: الجود بالخُلُق والبِشْر والبَسْطة، وهو فوق الجود بالصّبر والاحتمالِ والعفوِ، وهو الذي بلغ بصاحبه درجةَ الصّائم القائم، وهو أثقلُ ما يوضع في الميزان. قال النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَحْقِرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تَلقى أخاك ووجهُك منبسطٌ إليه» (¬١). وفي هذا الجود من المنافع والمسارِّ وأنواعِ المصالح ما فيه، والعبد لا يُمكِنه أن يسعَ الناسَ بماله، ويُمكِنُه أن يَسَعَهم بخُلقه (¬٢) واحتماله.
العاشرة: الجود بتَرْفيهِ (¬٣) ما في أيدي النّاس عليهم، فلا يلتفت إليه، ولا يَستشرِف له بقلبه، ولا يتعرّض له بحاله ولا لسانه. وهذا هو الذي قال
---------------
(¬١) أخرجه مسلم (٢٦٢٦) من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -. وفيه: «ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق». وأخرجه بلفظ المؤلف: البخاري في «الأدب المفرد» (١١٨٢)، والنسائي في «الكبرى» (٩٦١١)، والطبراني في «الكبير» (٦٣٨٣) من حديث جابر بن سليم أو سليم بن جابر، وإسناده صحيح.
(¬٢) في طبعة الفقي: «والعبد لا يمكنه أن يسعهم بخلقه». وفيه سقط أفسد المعنى.
(¬٣) كذا في النسخ، وغيَّره في المطبوع إلى «بتركه». والترفيه هنا بمعنى جَعْل الناس في رفاهية بما عندهم، والإبقاء عليهم، وعدم التعرُّض لهم، كما يشرحه المؤلف.

الصفحة 11