كتاب مدارج السالكين - ط عطاءات العلم (اسم الجزء: 3)

ثمّ قال تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، يعني إذا تَسَفَّهَ (¬١) عليك الجاهلُ فلا تُقابِلْه بالسَّفه، كقوله: {خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (٦٣)} [الفرقان: ٦٣]. وعلى هذا فليست بمنسوخةٍ، بل يُعرِض عنه مع إقامة حقِّ الله عليه، ولا ينتقم لنفسه.
وهكذا كان خُلقه - صلى الله عليه وسلم -. قال أنسٌ - رضي الله عنه -: «كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أحسنَ النّاس خُلُقًا» (¬٢). وقال: «ما مَسِسْتُ ديباجًا ولا حريرًا ألينَ من كفِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا شَمِمْتُ رائحةً قطُّ أطيبَ من رائحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولقد خَدمتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرَ سنين، فما قال لي أفٍّ قطُّ، ولا قال لشيءٍ فعلتُه: لِمَ فعلتَه (¬٣)؟ ولا لشيءٍ لم أفعلْه: ألا فعلتَ كذا؟». متّفقٌ عليهما (¬٤).

وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنّ البرَّ هو (¬٥) حسنُ الخلق، ففي «صحيح مسلمٍ» (¬٦) عن النَّوّاس بن سَمْعان - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البرِّ والإثم؟ فقال: «البرُّ حسنُ الخلق، والإثمُ ما حاكَ في صدرك، وكرهتَ أن يطّلعَ عليه النّاسُ». فقابلَ البرَّ بالإثم، وأخبر أنّ البرّ حسنُ الخُلق، والإثم حَوَازُّ (¬٧)
---------------
(¬١) أي أظهر السفاهة وشنَّع.
(¬٢) أخرجه البخاري (٦٢٠٣) ومسلم (٦٥٩، ٢١٥٠).
(¬٣) «لم فعلته» ليست في ش، د.
(¬٤) أخرج البخاري (٣٥٦١) ومسلم (٢٣٣٠) الجملتين الأوليين. أما قوله: «لقد خدمتُ ... » فأخرجه أحمد (١٣٠٣٤) وعبد الرزاق (١٧٩٤٦) بإسناد صحيح.
(¬٥) «هو» ليست في ل.
(¬٦) رقم (٢٥٥٣).
(¬٧) ش: «حزاز». د: «حزازة». والمثبت من ل. وهو جمع حازّ، وحوازُّ الصدور: الأمور التي تحزُّ فيها، أي تؤثّر كما يؤثِّر الحزُّ في الشيء، وهو ما يخطر فيها من أن تكون معاصي. ومنه حديث ابن مسعود: «الإثم حَوَازُّ القلوب». ويُروى: «حَوَّاز القلوب» أي يحوزها ويتملكها ويغلب عليها. ويُروى: «حَزَّاز القلوب»، وهو فعّال من الحزّ. انظر: «النهاية» (١/ ٣٧٧، ٣٧٨).

الصفحة 27