كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 1)
(حَتَّى تَغْشَى) (1) الْقَلْبَ وَهِيَ الرَّيْنُ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَوْبَقَتْهُ ذُنُوبُهُ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى "إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ" (66-يُوسُفَ) أَيْ تَهْلِكُوا {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} فِي التَّوْرَاةِ، وَالْمِيثَاقُ الْعَهْدُ الشَّدِيدُ {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ {لَا يَعْبُدُونَ} بِالْيَاءِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى "وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا" مَعْنَاهُ أَلَّا تَعْبُدُوا فَلَمَّا حَذَفَ أَنْ صَارَ الْفِعْلُ مَرْفُوعًا، وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ عَلَى النَّهْيِ {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أَيْ وَوَصَّيْنَاهُمْ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، بِرًّا بِهِمَا وَعَطْفًا عَلَيْهِمَا وَنُزُولًا عِنْدَ أَمْرِهِمَا، فِيمَا لَا يُخَالِفُ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى {وَذِي الْقُرْبَى} أَيْ وَبِذِي الْقَرَابَةِ وَالْقُرْبَى مَصْدَرٌ كَالْحُسْنَى {وَالْيَتَامَى} جَمْعُ يَتِيمٍ وَهُوَ الطِّفْلُ الَّذِي لَا أَبَ لَهُ {وَالْمَسَاكِينِ} يَعْنِي الْفُقَرَاءَ {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} صِدْقًا وَحَقًّا فِي شَأْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ سَأَلَكُمْ عَنْهُ فَاصْدُقُوهُ وَبَيِّنُوا صِفَتَهُ وَلَا تَكْتُمُوا أَمْرَهُ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَمُقَاتِلٍ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: مُرُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقِيلَ: هُوَ اللِّينُ فِي الْقَوْلِ وَالْمُعَاشَرَةُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ: حَسَنًا بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالسِّينِ أَيْ قَوْلًا حَسَنًا {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} أَعْرَضْتُمْ عَنِ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ {إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ} وَذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا مِنْهُمْ آمَنُوا {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} كَإِعْرَاضِ آبَائِكُمْ.
__________
(1) في الأصل حتى يقسو وفي ب حتى تغشى.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} أَيْ لَا تُرِيقُونَ دِمَاءَكُمْ أَيْ: لَا يَسْفِكُ بَعْضُكُمْ دَمَ بَعْضٍ، وَقِيلَ: لَا تَسْفِكُوا دِمَاءَ غَيْرِكُمْ فَتَسْفِكُ دِمَاءَكُمْ، فَكَأَنَّكُمْ سَفَكْتُمْ دِمَاءَ أَنْفُسِكُمْ، {وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} أَيْ لَا يُخْرِجُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا مِنْ دَارِهِ، وَقِيلَ: لَا تُسِيئُوا جِوَارَ من جاوركم فتلجؤوهم إِلَى الْخُرُوجِ بِسُوءِ جِوَارِكُمْ {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} بِهَذَا الْعَهْدِ أَنَّهُ حَقٌّ وَقَبِلْتُمْ {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} الْيَوْمَ عَلَى ذَلِكَ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ وَتُقِرُّونَ بِالْقَبُولِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ} يَعْنِي: يَا هَؤُلَاءِ، وَهَؤُلَاءِ لِلتَّنْبِيهِ {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} أَيْ (يَقْتُلُ) (1) بَعْضُكُمْ بَعْضًا {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ} بِتَشْدِيدِ الظَّاءِ أَيْ تَتَظَاهَرُونَ
__________
(1) ساقط من الأصل.
الصفحة 117