كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 1)

وَقَدْ مَاتَ قَوْمٌ بِكَلَامٍ سَمِعُوهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَوَارِضِ وَالْعِلَلِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي الْأَبْدَانِ (1) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ} أَيْ وَيُعَلِّمُونَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ [أَيْ إِلْهَامًا وَعِلْمًا، فَالْإِنْزَالُ بِمَعْنَى الْإِلْهَامِ وَالتَّعْلِيمِ، وَقِيلَ: وَاتَّبَعُوا مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ] (2) وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ الْمَلِكَيْنِ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا رَجُلَانِ سَاحِرَانِ كَانَا بِبَابِلَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: عِلْجَانِ (3) لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يُعَلِّمُونَ السِّحْرَ.
وَبَابِلُ هِيَ بَابِلُ الْعِرَاقِ سُمِّيَتْ بَابِلَ لِتَبَلْبُلِ الْأَلْسِنَةِ بِهَا عِنْدَ سُقُوطِ صَرْحِ نُمْرُودَ أَيْ تَفَرُّقِهَا، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: بَابِلُ أَرْضِ الْكُوفَةِ، وَقِيلَ جَبَلُ دَمَاوَنْدَ، وَالْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِالْفَتْحِ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ تَعْلِيمُ السِّحْرِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ؟ قِيلَ: لَهُ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُمَا لَا يَتَعَمَّدَانِ التَّعْلِيمَ لَكِنْ يَصِفَانِ السِّحْرَ وَيَذْكُرَانِ بُطْلَانَهُ وَيَأْمُرَانِ بِاجْتِنَابِهِ، وَالتَّعْلِيمُ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ، فَالشَّقِيُّ يَتْرُكُ نَصِيحَتَهُمَا وَيَتَعَلَّمُ السِّحْرَ مِنْ صَنْعَتِهِمَا.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى امْتَحَنَ النَّاسَ بِالْمَلَكَيْنِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَمَنْ شَقِيَ يَتَعَلَّمُ السِّحْرَ مِنْهُمَا [وَيَأْخُذُهُ عَنْهُمَا وَيَعْمَلُ بِهِ] (4) فَيَكْفُرُ بِهِ، وَمِنْ سَعِدَ يَتْرُكُهُ فَيَبْقَى عَلَى الْإِيمَانِ، وَيَزْدَادُ الْمُعَلِّمَانِ بِالتَّعْلِيمِ عَذَابًا، فَفِيهِ ابْتِلَاءٌ لِلْمُعَلِّمِ [وَالْمُتَعَلِّمِ] (5) وَلِلَّهِ أَنْ يَمْتَحِنَ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ، فَلَهُ الْأَمْرُ وَالْحُكْمُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} اسْمَانِ سُرْيَانِيَّانِ وَهُمَا فِي مَحَلِّ الْخَفْضِ عَلَى تَفْسِيرِ الْمَلَكَيْنِ إِلَّا أَنَّهُمَا نُصِبَا لِعُجْمَتِهِمَا وَمَعْرِفَتِهِمَا، وَكَانَتْ قِصَّتُهُمَا عَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْمُفَسِّرُونَ (6) أَنَّ الْمَلَائِكَةَ رَأَوْا مَا يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ الْخَبِيثَةِ فِي زَمَنِ إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَعَيَّرُوهُمْ وَقَالُوا: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَعَلْتَهُمْ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً وَاخْتَرْتَهُمْ فَهُمْ يَعْصُونَكَ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَوْ أَنْزَلْتُكُمْ إِلَى الْأَرْضِ وَرَكَّبْتُ فِيكُمْ مَا رَكَّبْتُ فِيهِمْ لَرَكِبْتُمْ مِثْلَ مَا رَكِبُوا فَقَالُوا: سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَعْصِيَكَ قَالَ لَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: فَاخْتَارُوا مَلَكَيْنِ مِنْ خِيَارِكُمْ أُهْبِطُهُمَا إِلَى الْأَرْضِ، فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَكَانَا مِنْ أَصْلَحِ الْمَلَائِكَةِ وَأَعْبَدِهِمْ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمُ: اخْتَارُوا ثَلَاثَةً فَاخْتَارُوا عَزَا وَهُوَ هَارُوتُ وَعَزَايَا وَهُوَ مَارُوتُ -غُيِّرَ اسْمُهُمَا لَمَّا قَارَفَا الذَّنْبَ -وَعَزَائِيلَ، فَرَكَّبَ اللَّهُ فِيهِمُ الشَّهْوَةَ وَأَهْبَطَهُمْ إِلَى الْأَرْضِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَحْكُمُوا بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ
__________
(1) انظر تفصيل ذلك فيما بسطه ابن كثير من مسائل حول حقيقة السحر وحكم تعاطيه وتعلمه ... في التفسير: 1 / 252-261، أحكام القرآن للجصاص: 1 / 50-72.
(2) زيادة من (ب) .
(3) العلج: الرجل الضخم من كفار العجم.
(4) ساقط من (ب) .
(5) ساقطة من (ب) .
(6) راجع فيما سبق هامش (1) ص (127) . وما قاله المحققون من المفسرين في رد هذه الروايات الإسرائيلية.

الصفحة 129