كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 1)

الطَّائِفِينَ هُمُ الْغُرَبَاءُ والعاكفين أَهْلُ مَكَّةَ، قَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: الطَّوَافُ لِلْغُرَبَاءِ أَفْضَلُ، وَالصَّلَاةُ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَفْضَلُ.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) }
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا} يَعْنِي مَكَّةَ وَقِيلَ: الْحَرَمَ {بَلَدًا آمِنًا} أَيْ ذَا أَمْنٍ يَأْمَنُ فِيهِ أَهْلُهُ {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} إِنَّمَا دَعَا بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، وَفِي الْقَصَصِ أَنَّ الطَّائِفَ كَانَتْ مِنْ مَدَايِنِ الشَّامِ بِأُرْدُنَّ فَلَمَّا دَعَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا الدُّعَاءَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى قَلَعَهَا مِنْ أَصْلِهَا وَأَدَارَهَا حَوْلَ الْبَيْتِ سَبْعًا ثُمَّ وَضَعَهَا مَوْضِعَهَا الَّذِي هِيَ الْآنَ فِيهِ، فَمِنْهَا أَكْثَرُ ثَمَرَاتِ مَكَّةَ {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} دَعَا لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً {قَالَ} اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فَأُمْتِعُهُ خَفِيفًا بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْبَاقُونَ مُشَدَّدًا وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ قَلِيلًا أَيْ سَأَرْزُقُ الْكَافِرَ أَيْضًا قَلِيلًا إِلَى مُنْتَهَى أَجَلِهِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ الرِّزْقَ لِلْخَلْقِ كَافَّةً مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالْقِلَّةِ لِأَنَّ مَتَاعَ الدُّنْيَا قَلِيلٌ {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} أَيْ أُلْجِئُهُ فِي الْآخِرَةِ {إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أَيِ الْمَرْجِعُ يَصِيرُ إِلَيْهِ قَالَ مُجَاهِدٌ: وُجِدَ عِنْدَ الْمَقَامِ كتاب فيه: أن اللَّهُ ذُو بَكَّةَ صَنَعْتُهَا يَوْمَ خَلَقْتُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَحَرَّمْتُهَا يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَحَفَفْتُهَا بِسَبْعَةِ أَمْلَاكٍ حُنَفَاءَ، يَأْتِيهَا رِزْقُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ سُبُلٍ، مُبَارَكٌ لَهَا فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} قَالَ الرُّوَاةُ: (1) إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ مَوْضِعَ الْبَيْتِ قَبْلَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ عَامٍ، وَكَانَتْ زُبْدَةً بَيْضَاءَ عَلَى الْمَاءِ فَدُحِيَتِ الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِهَا فَلَمَّا أَهْبَطَ اللَّهُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْأَرْضِ اسْتَوْحَشَ، فَشَكَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ مِنْ يَاقُوتَةٍ مِنْ يَوَاقِيتِ الْجَنَّةِ لَهُ بَابَانِ مِنْ زُمُرُّدٍ أَخْضَرَ، بَابٌ شَرْقِيٌّ وَبَابٌ غَرْبِيٌّ فَوَضَعَهُ عَلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ وَقَالَ: يَا آدَمُ إِنِّي أَهْبَطْتُ لَكَ بَيْتًا تَطُوفُ بِهِ كَمَا يُطَافُ حَوْلَ عَرْشِي، تُصَلِّي عِنْدَهُ كَمَا يُصَلَّى عِنْدَ عَرْشِي وَأَنْزَلَ الْحَجَرَ وَكَانَ
__________
(1) ذكر الرواة هذه القصص والأخبار عن بناء البيت، ومعظمها من الإسرائيليات التي لا تثبت بها حجة، وحسبنا ما جاء من الروايات الثابتة، كالذي ذكره البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب: "اتخذ الله إبراهيم خليلا". راجع: تفسير ابن كثير: 1 / 302 وما بعدها، البداية والنهاية: 1 / 163-166، الإسرائيليات والموضوعات للشيخ محمد أبو شهبة ص235-237.

الصفحة 149