كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 1)

وَلِوُجُوبِ دَمِ التَّمَتُّعِ أربع شرائط: أحدهما أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَالثَّانِي أَنْ يَحُجَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعُمْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَالثَّالِثُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ فِي مَكَّةَ وَلَا يَعُودُ إِلَى الْمِيقَاتِ لِإِحْرَامِهِ، الرَّابِعُ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَمَتَى وُجِدَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ فَعَلَيْهِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، وَهُوَ دَمُ شَاةٍ يَذْبَحُهُ يَوْمَ النَّحْرِ فَلَوْ ذبحها قبله بعد ما أَحْرَمَ بِالْحَجِّ يَجُوزُ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَدِمَاءِ الْجِنَايَاتِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَبْلَ يوم النحر 30/أكَدَمِ الْأُضْحِيَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} أَيْ صُومُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، يَصُومُ يَوْمًا قَبْلَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ، وَلَوْ صَامَ قَبْلَهُ بَعْدَمَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ يَجُوزُ، وَلَا يَجُوزُ يَوْمَ النَّحْرِ وَلَا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى جَوَازِ صَوْمِ الثَّلَاثِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ.
يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} أَيْ صُومُوا سَبْعَةَ أَيَّامٍ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَى أَهْلِيكُمْ وَبَلَدِكُمْ، فَلَوْ صَامَ السَّبْعَةَ قَبْلَ الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِهِ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَصُومَهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الرُّجُوعِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} ذَكَرَهَا عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَرَبَ مَا كَانُوا يَهْتَدُونَ إِلَى الْحِسَابِ فَكَانُوا يَحْتَاجُونَ إِلَى فَضْلِ شَرْحٍ وَزِيَادَةِ بَيَانٍ، وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ يَعْنِي فَصِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ ثَلَاثَةٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ فَهِيَ عَشْرَةٌ كَامِلَةٌ وَقِيلَ: كَامِلَةٌ فِي الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ، وَقِيلَ: كَامِلَةٌ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّوْمِ بَدَلَ الْهَدْيِ وَقِيلَ: كَامِلَةٌ بِشُرُوطِهَا وَحُدُودِهَا، وَقِيلَ لَفْظُهُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ أَمْرٌ أَيْ فَأَكْمِلُوهَا وَلَا تَنْقُصُوهَا {ذَلِكَ} أَيْ هَذَا الْحُكْمُ {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وَاخْتَلَفُوا فِي حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ الْحَرَمِ وبه قال طاووس مِنَ التَّابِعِينَ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَهْلُ عَرَفَةَ وَالرَّجِيعِ وَضَجْنَانَ وَنَخْلَتَانِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: كُلُّ مَنْ كَانَ وَطَنُهُ مِنْ مَكَّةَ عَلَى أَقَلِّ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَهُوَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُمْ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ، وَقِيلَ هُمْ أَهْلُ الْمِيقَاتِ فَمَا دُونَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَدَمُ الْقِرَانِ كَدَمِ التَّمَتُّعِ وَالْمَكِّيُّ إِذَا قَرَنَ أَوْ تَمَتَّعَ فَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ، قَالَ عِكْرِمَةُ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ فَقَالَ: أَهَلَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَهْلَلْنَا فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "اجْعَلُوا إِهْلَالَكُمْ بِالْحَجِّ عُمْرَةً إِلَّا مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ". فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَأَتَيْنَا النِّسَاءَ وَلَبِسْنَا الثِّيَابَ ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أَنْ نُهِلَّ بِالْحَجِّ، فَإِذَا فَرَغْنَا فَقَدْ تَمَّ حَجُّنَا وَعَلَيْنَا الْهَدْيُ، فَجَمَعُوا نُسُكَيْنِ فِي عَامٍ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ وَأَبَاحَهُ لِلنَّاسِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (1) .
__________
(1) رواه البخاري: في الحج باب قوله تعالى (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) 3 / 433.

الصفحة 224