كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 2)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} ذَوِي الْعُقُولِ ثُمَّ وَصَفَهُمْ فَقَالَ:
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) }
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ: هَذَا فِي الصَّلَاةِ يُصَلِّي قَائِمًا فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرَّاحِيُّ، أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَحْبُوبِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عِيسَى مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، أَنَا هَنَّادٌ أَنَا وَكِيعٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَلَاةِ الْمَرِيضِ فَقَالَ: "صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ". (1) .
وَقَالَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ أَرَادَ بِهِ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى الذِّكْرِ فِي عُمُومِ الْأَحْوَالِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّ مَا يَخْلُو مِنْ إِحْدَى هَذِهِ الْحَالَاتِ الثَّلَاثِ، نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ "فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ" {النِّسَاءِ -103} ، {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَمَا أَبْدَعَ فِيهِمَا لِيَدُلَّهُمْ ذَلِكَ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَيَعْرِفُوا أَنَّ لَهَا صَانِعًا قَادِرًا مُدَبِّرًا حَكِيمًا قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: الْفِكْرَةُ تُذْهِبُ الْغَفْلَةَ وَتُحْدِثُ لِلْقَلْبِ الْخَشْيَةَ كَمَا يُحْدِثُ الْمَاءُ لِلزَّرْعِ النَّبَاتَ، وَمَا جُلِيَتِ الْقُلُوبُ بِمِثْلِ الْأَحْزَانِ وَلَا اسْتَنَارَتْ بِمِثْلِ الْفِكْرَةِ، {رَبَّنَا} أَيْ: وَيَقُولُونَ رَبَّنَا {مَا خَلَقْتَ هَذَا} رَدَّهُ إِلَى الْخَلْقِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ هَذِهِ، {بَاطِلًا} أَيْ: عَبَثًا وَهَزْلَا بَلْ خَلَقْتَهُ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ وَانْتَصَبَ الْبَاطِلُ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: بِالْبَاطِلِ، {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
{رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} أَيْ: أَهَنْتَهُ، وَقِيلَ: أَهْلَكْتَهُ، وَقِيلَ: فَضَحْتَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} (هُودٍ -78) فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ" (التَّحْرِيمِ -8) وَمِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ وَقَدْ قَالَ: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} قِيلَ: قَالَ أَنَسٌ وَقَتَادَةُ مَعْنَاهُ: إِنَّكَ مَنْ تُخَلِّدْ فِي النَّارِ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ (2) وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ هَذِهِ خَاصَّةٌ لِمَنْ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا (3) فَقَدْ رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ قَوْمًا النَّارَ ثُمَّ يُخْرَجُونَ مِنْهَا" (4) . {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}
__________
(1) أخرجه البخاري في تقصير الصلاة باب إذا لم يطق قاعدا صلى على جنب: 2 / 587 والمصنف في شرح السنة: 4 / 109.
(2) تفسير الطبري: 7 / 477.
(3) تفسير الطبري: 7 / 477.
(4) أخرج البخاري عن أنس " يخرج قوم من النار بعد ما مسهم منها سفع فيدخلون الجنة فيسميهم أهل الجنة: الجهنميين" كتاب الرقاق باب صفة الجنة والنار: 11 / 416 وفي التوحيد: 13 / 434.
الصفحة 152