كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 2)

طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: {مُرَاغَمًا} أَيْ: مُتَحَوَّلًا يَتَحَوَّلُ إِلَيْهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُتَزَحْزِحًا عَمَّا يَكْرَهُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمُرَاغَمُ: يُقَالُ: رَاغَمْتُ قَوْمِي وَهَاجَرْتُهُمْ، وَهُوَ الْمُضْطَرَبُ وَالْمَذْهَبُ.
رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ سَمِعَهَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَرِيضٌ يُقَالُ لَهُ جُنْدَعُ بْنُ ضَمْرَةَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَبِيتُ اللَّيْلَةَ بِمَكَّةَ، أَخْرِجُونِي، فَخَرَجُوا بِهِ يَحْمِلُونَهُ عَلَى سَرِيرٍ حَتَّى أَتَوْا بِهِ التَّنْعِيمَ فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ، فَصَفَقَ يَمِينَهُ عَلَى شَمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ هَذِهِ لَكَ وَهَذِهِ لِرَسُولِكَ أُبَايِعُكَ عَلَى مَا بَايَعَكَ عَلَيْهِ رَسُولُكَ، فَمَاتَ فَبَلَغَ خَبَرُهُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: لَوْ وَافَى الْمَدِينَةَ لَكَانَ أَتَمَّ وَأَوْفَى أَجْرًا، وَضَحِكَ المشركون وقالوا: 94/ب مَا أَدْرَكَ هَذَا مَا طَلَبَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} (1) . أَيْ: قَبْلَ بُلُوغِهِ إِلَى مُهَاجِرِهِ، {فَقَدْ وَقَعَ} أَيْ: وَجَبَ {أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} بِإِيجَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَضْلًا مِنْهُ، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} أَيْ: سَافَرْتُمْ، {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أَيْ: حَرَجٌ وَإِثْمٌ {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} يَعْنِي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ إِلَى رَكْعَتَيْنِ، وَذَلِكَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعَشَاءِ {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ} أَيْ: يَغْتَالَكُمْ وَيَقْتُلَكُمْ {الَّذِينَ كَفَرُوا} فِي الصَّلَاةِ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ" (يُونُسَ -83) أَيْ: يَقْتُلَهُمْ.
{إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} أَيْ: ظَاهِرَ الْعَدَاوَةِ.
اعْلَمْ أَنَّ قَصْرَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ جَائِزٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْإِتْمَامِ: فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّ الْقَصْرَ وَاجِبٌ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَتَادَةُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: "الصَّلَاةُ أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَأُتِمَّتْ صَلَاةُ الْحَضَرِ" (2) .
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى جَوَازِ الْإِتْمَامِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِنْ شَاءَ أَتَمَّ وَإِنْ شَاءَ قَصَرَ، وَالْقَصْرُ أَفْضَلُ.
__________
(1) قال الهيثمي: أخرجه أبو يعلى ورجاله ثقات، مجمع الزوائد 7 / 10، والواحدي في أسباب النزول ص (208) ، كلاهما عن ابن عباس انظر الدر المنثور 2 / 651، الطبري: 9 / 114 وما بعدها، أسد الغابة لابن الأثير 1 / 359 - 360.
(2) أخرجه البخاري في التقصير، باب يقصر إذا خرج من موضعه: 2 / 569، ومسلم في المسافرين، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم (685) : 1 / 478.

الصفحة 274