كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 2)

وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَإِنْ صَالَحَتْهُ عَنْ بَعْضِ حَقِّهَا مِنَ الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ فَذَلِكَ جَائِزٌ مَا رَضِيَتْ، فَإِنْ أَنْكَرَتْهُ بَعْدَ الصُّلْحِ فَذَلِكَ لَهَا وَلَهَا حَقُّهَا (1) .
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هُوَ أَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ تَحْتَهُ الْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ فَيَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا الشَّابَّةَ، فَيَقُولُ لِلْكَبِيرَةِ: [أَعْطَيْتُكِ مِنْ] (2) مَالِي نَصِيبًا عَلَى أَنْ أَقْسِمَ لِهَذِهِ الشَّابَّةِ أَكْثَرَ مِمَّا أَقْسِمُ لَكِ فَتَرْضَى بِمَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ، فَإِنْ أَبَتْ أَنْ تَرْضَى فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمَا فِي الْقَسْمِ.
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: تَكُونُ الْمَرْأَةُ عِنْدَ الرَّجُلِ فَتَنْبُو عَيْنُهُ عَنْهَا مِنْ دَمَامَةٍ أَوْ كِبَرٍ فَتَكْرَهُ فُرْقَتَهُ، فَإِنْ أَعْطَتْهُ مِنْ مَالِهَا فَهُوَ لَهُ حِلٌّ، وَإِنْ أَعْطَتْهُ مِنْ أَيَّامِهَا فَهُوَ لَهُ حِلٌّ (3) {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} يَعْنِي: إِقَامَتَهَا بَعْدَ تَخْيِيرِهِ إِيَّاهَا، وَالْمُصَالَحَةُ عَلَى تَرْكِ بَعْضِ حَقِّهَا مِنَ الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ خَيْرٌ مِنَ الْفُرْقَةِ، كَمَا يُرْوَى أَنَّ سَوْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتِ امْرَأَةً كَبِيرَةً وَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُفَارِقَهَا، فَقَالَتْ: لَا تُطَلِّقْنِي وَإِنَّمَا بِي أَنْ أُبْعَثَ فِي نِسَائِكَ وَقَدْ جَعَلْتُ نَوْبَتِي لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَأَمْسَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (4) .
قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} يُرِيدُ: شُحَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِنَصِيبِهِ مِنَ الْآخَرِ، وَالشُّحُّ: أَقْبَحُ الْبُخْلِ، وَحَقِيقَتُهُ. الْحِرْصُ عَلَى مَنْعِ الْخَيْرِ، {وَإِنْ تُحْسِنُوا} أَيْ: تُصْلِحُوا {وَتَتَّقُوا} الْجَوْرَ، وَقِيلَ: هَذَا خِطَابٌ مَعَ الْأَزْوَاجِ، أَيْ: وَإِنْ تُحْسِنُوا بِالْإِقَامَةِ مَعَهَا عَلَى الْكَرَاهَةِ وَتَتَّقُوا ظُلْمَهَا {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} فَيَجْزِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ.
{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} أَيْ: لَنْ تَقْدِرُوا أَنْ تُسَوُّوا بَيْنَ النِّسَاءِ فِي الْحُبِّ وَمَيْلِ الْقَلْبِ، {وَلَوْ حَرَصْتُمْ} عَلَى الْعَدْلِ، {فَلَا تَمِيلُوا} أَيْ: إِلَى الَّتِي تُحِبُّونَهَا، {كُلَّ الْمَيْلِ} فِي الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ، أَيْ: لَا تُتْبِعُوا أَهْوَاءَكُمْ أَفْعَالَكُمْ، {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} أَيْ فَتَدَعُوا الْأُخْرَى كَالْمَنُوطَةِ لَا أَيِّمًا وَلَا ذَاتَ بَعْلٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَالْمَحْبُوسَةِ، وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: كَأَنَّهَا مَسْجُونَةٌ.
__________
(1) انظر: الدر المنثور: 2 / 712.
(2) في أ: (أعطيك على أن أقسم من. .) .
(3) أخرجه أبو داود الطيالسي وابن أبي حاتم والطبري. انظر: الطبري: 9 / 268 - 269، ابن كثير: 1 / 564.
(4) انظر طبقات ابن سعد: 8 / 53، 169، وثبت أن سودة وهبت يومها لعائشة فيما أخرجه البخاري في النكاح، باب المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها: 9 / 312، ومسلم في الرضاع، باب جواز هبتها نوبتها لضرتها برقم (1462) : 2 / 1085، والمصنف في شرح السنة: 9 / 152.

الصفحة 295