كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 2)

هَذِهِ مَرَّةً وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً" (1) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ، وَقَالَ: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} أَيْ حُجَّةً بَيِّنَةً فِي عَذَابِكُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ مَنَازِلَ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ:
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ {فِي الدَّرْكِ} بِسُكُونِ الرَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ كَالظَّعْنِ وَالظَّعَنِ وَالنَّهْرِ وَالنَّهَرِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ} فِي تَوَابِيتَ مِنْ حَدِيدٍ مُقْفَلَةٍ فِي النَّارِ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: بَيْتٌ مُقْفَلٌ عَلَيْهِمْ تَتَوَقَّدُ فِيهِ النَّارُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِهِمْ، {وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} مَانِعًا مِنَ الْعَذَابِ.
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} مِنَ النِّفَاقِ وَآمَنُوا {وَأَصْلَحُوا} عَمَلَهُمْ {وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ} وَثِقُوا بِاللَّهِ {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} أَرَادَ الْإِخْلَاصَ بِالْقَلْبِ، لِأَنَّ النِّفَاقَ كُفْرُ الْقَلْبِ، فَزَوَالُهُ يَكُونُ بِإِخْلَاصِ الْقَلْبِ، {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} قَالَ الْفَرَّاءُ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ} فِي الْآخِرَةِ {أَجْرًا عَظِيمًا} يَعْنِي: الْجَنَّةَ، وَحُذِفَتِ الْيَاءُ مِنْ {يُؤْتِ اللَّهُ} فِي الْخَطِّ لِسُقُوطِهَا فِي اللَّفْظِ، وَسُقُوطُهَا فِي اللَّفْظِ لِسُكُونِ اللَّامِ فِي "اللَّهِ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ} أَيْ: إِنْ شَكَرْتُمْ نَعْمَاءَهُ {وَآمَنْتُمْ} بِهِ، فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: إِنْ آمَنْتُمْ وَشَكَرْتُمْ، لِأَنَّ الشُّكْرَ لَا يَنْفَعُ مَعَ عَدَمِ الْإِيمَانِ، وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ، مَعْنَاهُ: إِنَّهُ لَا يُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ الشَّاكِرَ، فَإِنَّ تَعْذِيبَهُ عِبَادَهُ لَا يَزِيدُ فِي مِلْكِهِ، وَتَرَكَهُ عُقُوبَتَهُمْ عَلَى فِعْلِهِمْ لَا يُنْقِصُ مِنْ سُلْطَانِهِ، وَالشُّكْرُ: ضِدَّ الْكُفْرِ وَالْكُفْرِ سَتْرُ النِّعْمَةِ، وَالشُّكْرُ: إِظْهَارُهَا، {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} فَالشُّكْرُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الرِّضَى بِالْقَلِيلِ مِنْ عِبَادِهِ وَإِضْعَافُ الثَّوَابِ عَلَيْهِ، وَالشُّكْرُ مِنَ الْعَبْدِ:
__________
(1) أخرجه مسلم في صفات المنافقين، برقم (2784) : 4 / 2146.

الصفحة 303