كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 3)

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي سَفَرٍ فَقَالَ: "أَمَعَكَ مَاءٌ" فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَنَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَمَشَى حَتَّى تَوَارَى عَنِّي فِي سَوَادِ اللَّيْلِ، ثُمَّ جَاءَ فَأَفْرَغْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِدَاوَةِ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُخْرِجَ ذِرَاعَيْهِ مِنْهَا حَتَّى أَخْرَجَهُمَا مِنْ أَسْفَلِ الْجُبَّةِ فَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ أَهْوَيْتُ لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ فَقَالَ: دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ"، فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا. (1)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} فَالْكَعْبَانِ هُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ مِنْ جَانِبَيِ الْقَدَمَيْنِ، وَهُمَا مُجْتَمَعُ مَفْصِلِ السَّاقِ وَالْقَدَمِ، فَيَجِبُ غَسْلُهُمَا مَعَ الْقَدَمَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمِرْفَقَيْنِ.
وَفَرَائِضُ الْوُضُوءِ: غَسْلُ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَسْحُ الرَّأْسِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي وُجُوبِ النِّيَّةِ: فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى وُجُوبِهَا لأن الوضوء فيفتقر إِلَى النِّيَّةِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ التَّرْتِيبِ، وَهُوَ أَنْ يَغْسِلَ أَعْضَاءَهُ عَلَى الْوَلَاءِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى وُجُوبِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: "إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ"، (سُورَةُ الْبَقَرَةِ، 158) . وَبَدَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّفَا، وَقَالَ: "نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ" (2) وَكَذَلِكَ هَاهُنَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِذِكْرِ غَسْلِ الْوَجْهِ فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَبْدَأَ فِعْلًا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ذِكْرًا.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أن الترتيب 103\أسُنَّةٌ، وَقَالُوا: الْوَاوَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ لِلْجَمِيعِ لَا لِلتَّرْتِيبِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ" الْآيَةَ (سُورَةُ التَّوْبَةِ، 60) ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِي صَرْفِ الصَّدَقَاتِ إِلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَمَنْ أَوْجَبَ التَّرْتِيبَ أَجَابَ بِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَاعَى التَّرْتِيبَ بَيْنَ أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَفِي الْوُضُوءِ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ تَوَضَّأَ إِلَّا مُرَتِّبًا كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبَيَانُ الْكِتَابِ يُؤْخَذُ مِنَ السُّنَّةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا" (سُورَةُ الْحَجِّ، 77) ، لَمَّا قَدَّمَ ذِكْرَ الرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَعَلَ إِلَّا كَذَلِكَ
__________
(1) أخرجه البخاري في اللباس، باب لبس جبة الصوف في الغزو: 10 / 268-269،ومسلم في الطهارة باب المسح على الخفين، برقم (274) : 1 / 230. والمصنف في شرح السنة: 1 / 455.
(2) أخرجه مسلم في الحج، باب حجة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، برقم (1218) : 2 / 886-888، وهو قطعة من حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلفظ "أبدأ بما بدأ ... "، والمصنف في شرح السنة: 7 / 136.

الصفحة 24