كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 3)

{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} أَيْ: اتَّقُوا اللَّهَ بِطَاعَتِهِ وَأَصْلِحُوا الْحَالَ بَيْنَكُمْ بِتَرْكِ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُخَالَفَةِ، وَتَسْلِيمِ أَمْرِ الْغَنِيمَةِ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) }
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} يَقُولُ لَيْسَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِفُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ فِي إِيمَانِهِمْ، {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} خَافَتْ وَفَرِقَتْ قُلُوبُهُمْ، وَقِيلَ: إِذَا خُوِّفُوا بِاللَّهِ انْقَادُوا خَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ. {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} تَصْدِيقًا وَيَقِينًا. وَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ حَبِيبٍ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ: إِنَّ لِلْإِيمَانِ زِيَادَةً وَنُقْصَانًا، قِيلَ: فَمَا زِيَادَتُهُ؟ قَالَ: إِذَا ذَكَرْنَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَحَمِدْنَاهُ فَذَلِكَ زِيَادَتُهُ، وَإِذَا سَهَوْنَا وَغَفَلْنَا فَذَلِكَ نُقْصَانُهُ، وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ: إِنَّ لِلْإِيمَانِ فَرَائِضَ وَشَرَائِطَ وَشَرَائِعَ وَحُدُودًا وَسُنَنًا فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الْإِيمَانَ. {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أَيْ: يُفَوِّضُونَ إِلَيْهِ أُمُورَهُمْ وَيَثِقُونَ بِهِ وَلَا يَرْجُونَ غَيْرَهُ وَلَا يَخَافُونَ سِوَاهُ.
{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} يَعْنِي يَقِينًا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَرِئُوا مِنَ الْكُفْرِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: حَقًّا لَا شَكَّ فِي إِيمَانِهِمْ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ مُؤْمِنًا حَقًّا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا وَصَفَ بِذَلِكَ قَوْمًا مَخْصُوصِينَ عَلَى أَوْصَافٍ مَخْصُوصَةٍ، وَكُلُّ أَحَدٍ لَا يَتَحَقَّقُ وُجُودُ تِلْكَ الْأَوْصَافِ فِيهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: سَأَلَ رَجُلٌ الْحَسَنَ فَقَالَ: أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ، فَأَنَا بِهَا مُؤْمِنٌ، وَإِنْ كُنْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ قَوْلِهِ: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ" الْآيَةَ، فَلَا أَدْرِي أَمِنْهُمْ أَنَا أَمْ لَا؟
وَقَالَ عَلْقَمَةُ: كُنَّا فِي سَفَرٍ فَلَقِينَا قَوْمًا فَقُلْنَا: مَنِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا: نَحْنُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، فَلَمْ نَدْرِ مَا نُجِيبُهُمْ حَتَّى لَقِينَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَأَخْبَرْنَاهُ بِمَا قَالُوا، قَالَ: فَمَا رَدَدْتُمْ عَلَيْهِمْ؟ قُلْنَا: لَمْ نَرُدَّ عَلَيْهِمْ

الصفحة 326