كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 3)

{وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ} أَيْ يُظْهِرَهُ وَيُعْلِيهِ، {بِكَلِمَاتِهِ} بِأَمْرِهِ إِيَّاكُمْ بِالْقِتَالِ. وَقِيلَ [بِعِدَاتِهِ] (1) الَّتِي سَبَقَتْ مِنْ إِظْهَارِ الدِّينِ وَإِعْزَازِهِ، {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} أَيْ: يَسْتَأْصِلَهُمْ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ، يَعْنِي: كُفَّارَ الْعَرَبِ.
{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) }
__________
(1) في "أ": (بعداوته) .
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) }
{لِيُحِقَّ الْحَقَّ} لِيُثَبِّتَ الْإِسْلَامَ، {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} أَيْ: يُفْنِي الْكُفْرَ {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} الْمُشْرِكُونَ. وَكَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَبِيحَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} تَسْتَجِيرُونَ بِهِ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَتَطْلُبُونَ مِنْهُ الْغَوْثَ وَالنَّصْرَ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا دَخَلَ الْعَرِيشَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَمَدَّ يَدَهُ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ: اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتِنِي، اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تَهْلَكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَادًّا يَدَيْهِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ: يَا نَبِيَّ الله كفاك منا شدتك رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ "إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ" (1) {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ} مُرْسِلٌ إِلَيْكُمْ مَدَدًا وَرِدْءًا لَكُمْ، {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَيَعْقُوبُ "مُرْدَفِينَ" بِفَتْحِ الدَّالِّ، أَيْ: أَرْدَفَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ وَجَاءَ بِهِمْ مَدَدًا. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِ الدَّالِ، أَيْ: مُتَتَابِعِينَ بَعْضُهُمْ فِي إِثْرِ بَعْضٍ، يُقَالُ: أَرْدَفْتُهُ وَرَدِفْتُهُ بِمَعْنَى تَبِعْتُهُ.
يُرْوَى أَنَّهُ نَزَلَ جِبْرِيلُ فِي خَمْسِمِائَةٍ وَمِيكَائِيلُ فِي خَمْسِمِائَةٍ فِي [صُورَةِ] (2) الرِّجَالِ عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ بِيضٌ وَعَلَى رُءُوسِهِمْ عَمَائِمُ بِيضٌ، قَدْ أَرْخَوْا أَطْرَافَهَا بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ (3) .
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَاشَدَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ اللَّهَ مُنْجِزٌ لَكَ مَا وَعَدَكَ فَخَفَقَ رَسُولُ
__________
(1) أخرجه مسلم في الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر (1763) : 3 / 1383-1385، والمصنف في شرح السنة: 13 / 379.
(2) في "ب": (صفة) .
(3) أخرجه ابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عباس: انظر: الدر المنثور: 4 / 27.

الصفحة 332