كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 3)

الْوُجُوهُ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مُشْرِكٌ إِلَّا دَخَلَ فِي عَيْنَيْهِ وَفَمِهِ وَمَنْخَرَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ، فَانْهَزَمُوا وَرَدِفَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَقْتُلُونَهُمْ وَيَأْسِرُونَهُمْ (1) .
وَقَالَ قَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ: ذَكِرُ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثَ حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِحَصَاةٍ فِي مَيْمَنَةِ الْقَوْمِ وَبِحَصَاةٍ فِي مَيْسَرَةِ الْقَوْمِ وَبِحَصَاةٍ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَقَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ، فَانْهَزَمُوا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى"، إِذْ لَيْسَ فِي وُسْعِ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ أَنْ يَرْمِيَ كفا من 146/أالْحَصَا إِلَى وُجُوهِ جَيْشٍ فَلَا يَبْقَى فِيهِمْ عَيْنٌ إِلَّا وَيُصِيبُهَا مِنْهُ شيء.
وقيل: معناه الْآيَةِ وَمَا بَلَّغْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ بَلَّغَ.
وَقِيلَ: وَمَا رَمَيْتَ بِالرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ إِذْ رَمَيْتَ بِالْحَصْبَاءِ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى بِالرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى انْهَزَمُوا، {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا} أَيْ: وَلِيُنْعِمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ نِعْمَةً عَظِيمَةً بِالنَّصْرِ وَالْغَنِيمَةِ، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لِدُعَائِكُمْ، {عَلِيمٌ} بِنِيَّاتِكُمْ.
{ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) }
{ذَلِكُمْ} الَّذِي ذَكَرْتُ مِنَ الْقَتْلِ وَالرَّمْيِ وَالْبَلَاءِ الْحَسَنِ، {وَأَنَّ اللَّهَ} قِيلَ: فِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ: [وَاعْلَمُوا] (2) أَنَّ اللَّهَ {مُوهِنُ} مُضَعِفُ، {كَيْدِ الْكَافِرِينَ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ: "مُوَهِّنٌ" بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّنْوِينِ، "كَيْدَ" نَصْبٌ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "مُوهِنُ" بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّنْوِينِ إِلَّا حَفْصًا، فَإِنَّهُ يُضِيفُهُ فَلَا يُنَوِّنُ وَيَخْفِضُ "كَيْدَ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ لَمَّا الْتَقَى النَّاسُ: اللَّهُمَّ أَقَطَعُنَا لِلرَّحِمِ وَآتَانَا بِمَا لَمْ نَعْرِفْ فَأَحِنْهُ الْغَدَاةَ، فَكَانَ هُوَ الْمُسْتَفْتِحَ عَلَى نَفْسِهِ (3) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ
__________
(1) انظر: سيرة ابن هشام: 1 / 616 وما بعدها. (طبع الحلبي) ، والمسند للإمام أحمد: 1 / 117.
(2) في: "أ": (وأعلم) .
(3) انظر: سيرة ابن هشام: 1 / 628. ومعنى: أحِنْه: أهلكه، والمستفتح: الحاكم على نفسه بهذا الدعاء.

الصفحة 340