كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 4)

فِيهِ: أَنَّهُمْ لَمْ يَنْقُضُوا الْعَهْدَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا} مِنْ عَهْدِهِمُ الَّذِي عَاهَدْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ، {وَلَمْ يُظَاهِرُوا} لَمْ يُعَاوِنُوا، {عَلَيْكُمْ أَحَدًا} مِنْ عَدُوِّكُمْ. وَقَرَأَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ: "لَمْ يَنْقُضُوكُمْ" بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ، {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ} فَأَوْفُوا لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، {إِلَى مُدَّتِهِمْ} إِلَى أَجَلِهِمُ الَّذِي عَاهَدْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} .
{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى {فَإِذَا انْسَلَخَ} انْقَضَى وَمَضَى {الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} قِيلَ: هِيَ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ: رَجَبٌ، وَذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ إِسْحَاقَ: هِيَ شُهُورُ الْعَهْدِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ: فَأَجَلُهُ إِلَى انْقِضَاءِ الْمُحَرَّمِ خَمْسُونَ يَوْمًا، وَقِيلَ لَهَا "حُرُمٌ" لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَّرَّمَ فِيهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ دِمَاءَ الْمُشْرِكِينَ وَالتَّعَرُّضَ لَهُمْ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْقَدْرُ بَعْضُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: "فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ"؟.
قِيلَ: لَمَّا كَانَ هَذَا الْقَدَرُ مُتَّصِلًا بِمَا مَضَى أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ، وَمَعْنَاهُ: مَضَتِ الْمُدَّةُ الْمَضْرُوبَةُ الَّتِي يَكُونُ مَعَهَا انْسِلَاخُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، {وَخُذُوهُمْ} وَأْسِرُوهُمْ، {وَاحْصُرُوهُمْ} أَيِ: احْبِسُوهُمْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يُرِيدُ إِنْ تَحَصَّنُوا فَاحْصُرُوهُمْ، أَيِ: امْنَعُوهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ.
وَقِيلَ: امْنَعُوهُمْ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ وَالتَّصَرُّفِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ.
{وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} أَيْ: عَلَى كُلِّ طَرِيقٍ، وَالْمَرْصَدُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يَرْقُبُ فِيهِ الْعَدُوَّ، مِنْ رَصَدْتُ الشَّيْءَ أَرْصُدُهُ: إِذَا تَرَقَّبْتُهُ، يُرِيدُ: كُونُوا لَهُمْ رَصْدًا لِتَأْخُذُوهُمْ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهُوا.
وَقِيلَ: اقْعُدُوا لَهُمْ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، حَتَّى لَا يَدْخُلُوهَا.

الصفحة 13