كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 4)
{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) } .
قَوْلُهُ: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الزَّفِيرُ: الصَّوْتُ الشَّدِيدُ، وَالشَّهِيقُ الصَّوْتُ الضَّعِيفُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: الزَّفِيرُ أَوَّلُ نَهِيقِ الْحِمَارِ، وَالشَّهِيقُ آخِرُهُ إِذَا رَدَّدَهُ فِي جَوْفِهِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الزَّفِيرُ فِي الْحَلْقِ وَالشَّهِيقُ فِي الصَّدْرِ.
{خَالِدِينَ فِيهَا} لَابِثِينَ مُقِيمِينَ فِيهَا، {مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ} قَالَ الضَّحَّاكُ: مَا دَامَتْ سَمَوَاتُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَأَرْضُهُمَا وَكُلُّ مَا عَلَاكَ وَأَظَلَّكَ فَهُوَ سَمَاءٌ، وَكُلُّ مَا اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ قَدَمُكَ فَهُوَ أَرْضٌ.
وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: هَذَا عِبَارَةٌ عَنِ التَّأْبِيدِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ، يَقُولُونَ: لَا آتِيكَ ما دامت السموات وَالْأَرْضُ، وَلَا يَكُونُ كَذَا مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، يَعْنُونَ: أَبَدًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} .
اخْتَلَفُوا فِي هَذَيْنِ الِاسْتِثْنَاءَيْنِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الِاسْتِثْنَاءُ فِي أَهْلِ الشَّقَاءِ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُدْخِلُهُمُ اللَّهُ النَّارَ بِذُنُوبٍ اقْتَرَفُوهَا، ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا فيكون ذلك 178/أاسْتِثْنَاءً مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، لِأَنَّ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ سُعَدَاءَ اسْتَثْنَاهُمُ [اللَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْقِيَاءِ] (1) وَهَذَا كَمَا:
أَخْبَرْنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيُصِيبَنَّ أَقْوَامًا سَفْعٌ مِنَ النَّارِ بِذُنُوبٍ أَصَابُوهَا، عُقُوبَةً، ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ، فَيُقَالُ لَهُمُ: الْجَهَنَّمِيُّونَ" (2) .
وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا مُسَدَّدٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ ذَكْوَانَ، أَنْبَأَنَا أَبُو رَجَاءٍ، حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَيُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّينَ" (3) .
وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فِي أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيَرْجِعُ إِلَى مُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي النَّارِ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ.
__________
(1) في "ب": (من الأشقياء) .
(2) أخرجه البخاري في الرقاق، باب صفة الجنة والنار: 11 / 416، وفي التوحيد، باب ما جاء في قول الله تعالى: "إن رحمة الله قريب من المحسنين": 13 / 434، والمصنف في شرح السنة: 15 / 183. وسفع من النار؛ أي: سواد من لفح النار، أو علامة منها.
(3) أخرجه البخاري في الموضع السابق: 11 / 418، والمصنف في شرح السنة: 15 / 183-184.
الصفحة 200