كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 4)

{وَقَالَ الْآخَرُ} وَهُوَ الْخَبَّازُ: {إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ} وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ فَوْقَ رَأْسِي ثَلَاثَ سِلَالٍ فِيهَا الْخُبْزُ وَأَلْوَانُ الْأَطْعِمَةِ وَسِبَاعَ الطَّيْرِ تَنْهَشُ مِنْهُ. {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} أَخْبِرْنَا بِتَفْسِيرِهِ وتعبيره وما يؤول إِلَيْهِ أَمْرُ هَذِهِ الرُّؤْيَا.
{إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أَيِ: الْعَالِمِينِ بِعِبَارَةِ الرُّؤْيَا، وَالْإِحْسَانُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ.
وَرُوِيَ أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} مَا كَانَ إِحْسَانُهُ؟ قَالَ: كَانَ إِذَا مَرِضَ إِنْسَانٌ فِي السِّجْنِ عَادَهُ وَقَامَ عَلَيْهِ، وَإِذَا ضَاقَ [عَلَيْهِ الْمَجْلِسُ] (1) وَسَّعَ لَهُ، وَإِذَا احْتَاجَ جَمَعَ لَهُ شَيْئًا، وَكَانَ مَعَ هَذَا يَجْتَهِدُ فِي الْعِبَادَةِ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ لِلصَّلَاةِ (2) .
وَقِيلَ (3) : إِنَّهُ لَمَّا دَخَلَ السِّجْنَ وَجَدَ فِيهِ قَوْمًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُمْ وَانْقَطَعَ رَجَاؤُهُمْ وَطَالَ حُزْنُهُمْ، فَجَعَلَ يُسَلِّيهِمْ وَيَقُولُ: أَبْشِرُوا وَاصْبِرُوا تُؤْجَرُوا، فَيَقُولُونَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ يَا فَتَى مَا أَحْسَنَ وَجْهَكَ وَخُلُقَكَ وَحَدِيثَكَ، لَقَدْ بُورِكَ لَنَا فِي جِوَارِكَ فَمَنْ أَنْتَ يَا فَتَى؟ قَالَ: أَنَا يُوسُفُ بْنُ صَفِّيِ اللَّهِ يَعْقُوبَ بْنِ ذَبِيحِ اللَّهِ إِسْحَاقَ (4) بْنِ خَلِيلِ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهُ عَامِلُ السِّجْنِ: يَا فَتَى وَاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْتُ لَخَلَّيْتُ سَبِيلَكَ، وَلَكِنْ سَأُحْسِنُ جِوَارَكَ فَتُمَكَّنُ فِي أَيِّ بُيُوتِ السِّجْنِ شِئْتَ.
وَيُرْوَى أَنَّ الْفَتَيَيْنِ لَمَّا رَأَيَا يُوسُفَ قَالَا لَهُ: لَقَدْ أَحْبَبْنَاكَ حِينَ رَأَيْنَاكَ، فَقَالَ لَهُمَا يُوسُفُ: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ أَنْ لَا تُحِبَّانِي، فَوَاللَّهِ مَا أَحَبَّنِي أَحَدٌ قَطُّ إِلَّا دَخَلَ عَلَيَّ مِنْ حُبِّهِ بَلَاءٌ، لَقَدْ أَحَبَّتْنِي عَمَّتِي فَدَخَلَ عَلَيَّ بَلَاءٌ، ثُمَّ أَحَبَّنِي أَبِي فَأُلْقِيتُ فِي الجب، وأحبتني 182/ب امْرَأَةُ الْعَزِيزِ فَحُبِسْتُ. فَلَمَّا قَصَّا عَلَيْهِ الرُّؤْيَا كَرِهَ يُوسُفُ أَنْ يُعَبِّرَ لَهُمَا مَا سَأَلَاهُ لِمَا عَلِمَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَكْرُوهِ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَأَعْرَضَ عَنْ سُؤَالِهِمَا وَأَخَذَ فِي غَيْرِهِ فِي إِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ وَالدُّعَاءِ إِلَى التَّوْحِيدِ (5) .
{قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) } .
{قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} قِيلَ: أَرَادَ بِهِ فِي النَّوْمِ يَقُولُ: لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ فِي نَوْمِكُمَا، {إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} فِي الْيَقَظَةِ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(2) وقول الضحاك هذا، هو الذي رجحه أبو جعفر الطبري: 16 / 100.
(3) رواه الطبري في التفسير: 16 / 99 عن قتادة، وقال في عقبه: " وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب القول الذي ذكرناه عن الضحاك وقتادة ".
(4) راجع فيما سبق التعليق (1) في ص (215) عن الذبيح.
(5) أخرجه الطبري في التفسير: 16 / 102، وعزاه السيوطي أيضا لابن أبي حاتم عن ابن إسحاق.

الصفحة 241