كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 4)
{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَوْقَ كُلِّ عَالَمٍ عَالَمٌ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْعِلْمُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَاللَّهُ تَعَالَى فَوْقَ كُلِّ عَالَمٍ.
{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) } .
{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} يُرِيدُونَ أخًا لَهُ مِنْ أُمِّهِ، يَعْنِي: يُوسُفَ. وَاخْتَلَفُوا فِي السَّرِقَةِ الَّتِي وَصَفُوا بِهَا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ: كَانَ لِجَدِّهِ، أَبِي أُمِّهِ، صَنَمٌ يَعْبُدُهُ، فَأَخَذَهُ سِرًّا، أَوْ كَسَرَهُ وَأَلْقَاهُ فِي الطَّرِيقِ لِئَلَّا يُعْبَدَ (1) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ يُوسُفَ جَاءَهُ سَائِلٌ يَوْمًا، فَأَخَذَ بَيْضَةً مِنَ الْبَيْتِ فَنَاوَلَهَا لِلسَّائِلِ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: أَخَذَ دَجَاجَةً مِنَ الطَّيْرِ الَّتِي كَانَتْ فِي بَيْتِ يَعْقُوبَ فَأَعْطَاهَا سَائِلًا. وَقَالَ وَهْبٌ: كَانَ يُخَبِّئُ الطَّعَامَ مِنَ الْمَائِدَةِ لِلْفُقَرَاءِ (2) .
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ يُوسُفَ كَانَ عِنْدَ عَمَّتِهِ ابْنَةِ إِسْحَاقَ، بَعْدَ مَوْتِ أُمِّهِ رَاحِيلَ، فَحَضَنَتْهُ عَمَّتُهُ وَأَحَبَّتْهُ حُبًّا شَدِيدًا، فَلَمَّا تَرَعْرَعَ وَقَعَتْ مَحَبَّةُ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ، فَأَتَاهَا وَقَالَ: يَا أُخْتَاهْ سَلِّمِي إِلَيَّ يُوسُفَ، فَوَاللَّهِ مَا أَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَغِيبَ عَنِّي سَاعَةً. قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَنَا بِتَارِكِهِ، فَقَالَتْ: دَعْهُ عِنْدِي أَيَّامًا أَنْظُرْ إِلَيْهِ لَعَلَّ ذَلِكَ يُسَلِّينِي عَنْهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَعَمَدَتْ إِلَى مِنْطَقَةٍ لِإِسْحَاقَ كَانُوا يَتَوَارَثُونَهَا بِالْكِبَرِ، فَكَانَتْ عِنْدَهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ أَكْبَرَ وَلَدِ إِسْحَاقَ، فَحَزَمَتِ الْمِنْطَقَةَ عَلَى يُوسُفَ تَحْتَ ثِيَابِهِ وَهُوَ صَغِيرٌ، ثُمَّ قَالَتْ: لَقَدْ فَقَدْتُ مِنْطَقَةَ إِسْحَاقَ اكْشِفُوا أَهْلَ الْبَيْتِ فَكَشَفُوا فَوَجَدُوهَا مَعَ يُوسُفَ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَسَلَمٌ لِي، فَقَالَ يَعْقُوبُ: إِنْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ سَلَمٌ لَكَ (3) ، فَأَمْسَكَتْهُ حَتَّى مَاتَتْ، فَذَلِكَ الَّذِي قَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} (4) .
{فَأَسَرَّهَا} أَضْمَرَهَا {يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} وَإِنَّمَا أَتَتِ الْكِنَايَةُ لِأَنَّهُ عَنِيَ بِهَا الْكَلِمَةَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا} [ذَكَرَهَا سِرًّا فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِهَا، يُرِيدُ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا] (5)
__________
(1) أخرجه عنهما ابن جرير في التفسير: 16 / 195، وانظر: الدر المنثور: 4 / 564.
(2) انظر: الدر المنثور: 4 / 564.
(3) السلم (بفتحتين) : انقياد المذعن المستخذي، كالأسير الذي لا يمتنع ممن أمره، يقال: "أخذه سلما" إذا أسره من غير حرب، فجاء به منقادا لا يمتنع. انظر: تعليق محمود شاكر على الطبري: 16 / 196.
(4) أخرجه الطبري: 16 / 196-197 وعزاه السيوطي لابن إسحاق وابن جرير وابن حاتم. (الدر المنثور: 4 / 563) . هذا، ولم يرد نص ثابت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تعيين المراد بالسرقة التي وصفوه بها، والله أعلم بالذي كان.
(5) ما بين القوسين ساقط من "ب".
الصفحة 263