كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 4)
وَالرِّقِّ، وَبَعْدَ الْخُرُوجِ مِنَ السِّجْنِ صَارَ إِلَى الْمُلْكِ، وَلِأَنَّ وُقُوعَهُ فِي الْبِئْرِ كَانَ لِحَسَدِ إِخْوَتِهِ، وَفِي السِّجْنِ مُكَافَأَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِزَلَّةٍ كَانَتْ مِنْهُ.
{وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} وَالْبَدْوُ بَسِيطٌ مِنَ الْأَرْضِ يَسْكُنُهُ أَهْلُ الْمَوَاشِي بِمَاشِيَتِهِمْ، وَكَانُوا أَهْلَ بَادِيَةٍ وَمَوَاشٍ، يُقَالُ: بَدَا يَبْدُو إِذَا صَارَ إِلَى الْبَادِيَةِ. {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ} أَفْسَدَ، {الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} بِالْحَسَدِ.
{إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ} أَيْ: ذُو لُطْفٍ، {لِمَا يَشَاءُ} وَقِيلَ: مَعْنَاهُ بِمَنْ (1) يَشَاءُ.
وَحَقِيقَةُ اللَّطِيفِ: الَّذِي (2) يُوصِلُ الْإِحْسَانَ إِلَى غَيْرِهِ بِالرِّفْقِ {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} .
قَالَ أَهْلُ التَّارِيخِ: أَقَامَ يَعْقُوبُ بِمِصْرَ عِنْدَ يُوسُفَ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً فِي أَغْبَطِ حَالٍ وَأَهْنَإِ عَيْشٍ، ثُمَّ مَاتَ بِمِصْرَ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى إِلَى ابْنِهِ يُوسُفَ أَنْ يَحْمِلَ جَسَدَهُ حَتَّى يَدْفِنَهُ عِنْدَ أَبِيهِ إِسْحَاقَ، فَفَعَلَ يُوسُفُ ذَلِكَ، وَمَضَى بِهِ حَتَّى دَفَنَهُ بِالشَّامِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى مِصْرَ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: نُقِلَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تَابُوتٍ مِنْ سَاجٍ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَوَافَقَ ذَلِكَ الْيَوْمَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ الْعِيصُ فَدُفِنَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، وَكَانَا وُلِدَا فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ عُمْرُهُمَا مِائَةً وَسَبْعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً (3) .
فَلَمَّا جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى لِيُوسُفَ شَمْلَهُ عَلَى أَنَّ نَعِيمَ الدُّنْيَا لَا يَدُومُ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى حُسْنَ الْعَاقِبَةِ، فَقَالَ:
{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) } .
{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} يَعْنِي: مُلْكَ مِصْرَ، وَالْمُلْكُ: اتِّسَاعُ الْمَقْدُورِ لِمَنْ لَهُ السِّيَاسَةُ وَالتَّدْبِيرُ. {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} يَعْنِي: تَعْبِيرَ الرُّؤْيَا. {فَاطِرَ} أَيْ: يا فاطر، {السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَيْ: خَالِقَهُمَا {أَنْتَ وَلِيِّي} أَيْ: مُعِينِي وَمُتَوَلِّي أَمْرِي، {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} يَقُولُ اقْبِضْنِي إِلَيْكَ مُسْلِمًا، {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} يُرِيدُ بِآبَائِي النَّبِيِّينَ.
قَالَ قَتَادَةُ: لَمْ يَسْأَلْ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمَوْتَ إِلَّا يُوسُفُ (4) .
__________
(1) في "ب": لمن.
(2) في "ب": أنه يوصل.
(3) هذه الأخبار متلقاة عن أهل الكتاب، وقد ذكرها المؤرخون مع أخبار غيرها، والله أعلم بصحتها، وقد أشار إلى ذلك الحافظ ابن كثير، بل إنه قال: وعند أهل الكتاب أن عمر يعقوب ... إلخ. انظر: تفسير الطبري: 16 / 276، تاريخ الطبري: 1 / 363-364، البداية والنهاية لابن كثير: 1 / 220، تفسير ابن كثير: 2 / 492، الدر المنثور للسيوطي: 4 / 589-590.
(4) وهو مروي عن ابن عباس أيضا: انظر الدر المنثور: 4 / 591، وانظر ما كتبه ابن كثير في التفسير: 2 / 493.
الصفحة 281