كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 4)

{وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) } .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} الْآيَةَ. نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ؛ مِنْهُمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ؛ جَلَسُوا خَلْفَ الْكَعْبَةِ وَأَرْسَلُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَاهُمْ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: إِنْ سَرَّكَ أَنْ نَتَّبِعَكَ فَسَيِّرْ جِبَالَ مَكَّةَ بِالْقُرْآنِ فَأَذْهِبْهَا عَنَّا حَتَّى تَنْفَسِحَ، فَإِنَّهَا أَرْضٌ ضَيِّقَةٌ لِمَزَارِعِنَا، وَاجْعَلْ لَنَا فِيهَا عُيُونًا وَأَنْهَارًا، لِنَغْرِسَ فِيهَا الْأَشْجَارَ وَنَزْرَعَ، وَنَتَّخِذَ الْبَسَاتِينَ، فَلَسْتَ كَمَا زَعَمْتَ بِأَهْوَنَ عَلَى رَبِّكَ مِنْ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ سَخَّرَ لَهُ الْجِبَالَ تُسَبِّحُ مَعَهُ، أَوْ سَخِّرْ لَنَا الرِّيحَ فَنَرْكَبَهَا إِلَى الشَّامِ لَمِيرَتِنَا وَحَوَائِجِنَا وَنَرْجِعَ فِي يَوْمِنَا، فَقَدْ سُخِّرَتِ الرِّيحُ لِسُلَيْمَانَ كَمَا زَعَمْتَ، وَلَسْتَ بِأَهْوَنَ عَلَى رَبِّكَ مِنْ سُلَيْمَانَ، وَأَحْيِ لَنَا جَدَّكَ قُصَيًّا أَوْ مَنْ شِئْتَ مِنْ آبَائِنَا وَمَوْتَانَا لِنَسْأَلَهُ عَنْ أَمْرِكَ أَحَقٌّ مَا تَقُولُ أَمْ بَاطِلٌ؟ فَإِنَّ عِيسَى كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَلَسْتَ بِأَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} (1) فَأُذْهِبَتْ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، {أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ} أَيْ: شُقِّقَتْ فَجُعِلَتْ أَنْهَارًا وَعُيُونًا {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ "لَوْ":
فَقَالَ قَوْمٌ جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ، اكْتَفَى بِمَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ مُرَادَهُ (2) وَتَقْدِيرُهُ: لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: (3) . فَأُقْسِمُ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ سِوَاكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعَا
أَرَادَ: لَرَدَدْنَاهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ قَتَادَةَ قَالَ: لَوْ فُعِلَ هَذَا بِقُرْآنٍ قَبْلَ قُرْآنِكُمْ لَفُعِلَ بِقُرْآنِكُمْ.
وَقَالَ آخَرُونَ: جَوَابُ لَوْ مُقَدَّمٌ. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ "وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ" (4) كَأَنَّهُ قَالَ: لَوْ سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ "أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى" لَكَفَرُوا
__________
(1) انظر الطبري: 16 / 449-450، أسباب النزول للواحدي ص (316) ، تفسير القرطبي: 9 / 318، البحر المحيط: 5 / 391، الدر المنثور: 4 / 651-653، تفسير ابن كثير: 2 / 416.
(2) انظر: تفسير الطبري: 16 / 448-449، البحر المحيط: 5 / 391.
(3) هو امرؤ القيس، والبيت في ديوانه ص (113) . وانظر: الطبري: 15 / 277، 16 / 448.
(4) انظر: تفسير الطبري: 16 / 446-447، البحر المحيط: 5 / 391.

الصفحة 319