كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 4)

{يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} مِنَ الْقُرْآنِ، {وَمِنَ الْأَحْزَابِ} يَعْنِي: الْكُفَّارَ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، {مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ (1) .
وَقَالَ الْآخَرُونَ: كَانَ ذِكْرُ الرَّحْمَنِ قَلِيلًا فِي الْقُرْآنِ فِي الِابْتِدَاءِ فلما أسلم 191/ب عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ سَاءَهُمْ قِلَّةُ ذَكْرِهِ فِي الْقُرْآنِ مَعَ كَثْرَةِ ذِكْرِهِ فِي التَّوْرَاةِ، فَلَمَّا كَرَّرَ اللَّهُ ذِكْرَهُ فِي الْقُرْآنِ فَرِحُوا بِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} (2) يَعْنِي: مُشْرِكِي مَكَّةَ حِينَ كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَالُوا: مَا نَعْرِفُ الرحمن إلا رحمن الْيَمَامَةِ، يَعْنُونَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (3) {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} (الْأَنْبِيَاءُ -36) {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} (الرَّعْدُ -30) . وَإِنَّمَا قَالَ "بَعْضَهُ" لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُنْكِرُونَ ذِكْرَ اللَّهِ وَيُنْكِرُونَ ذِكْرَ الرَّحْمَنِ.
{قُلْ} يَا مُحَمَّدُ، {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} أَيْ: مَرْجِعِي.
{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) } .
{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} يَقُولُ: كَمَا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ يَا مُحَمَّدُ، فَأَنْكَرَهُ الْأَحْزَابُ، كَذَلِكَ أَنْزَلْنَا الْحَكَمَ وَالدِّينَ عَرَبِيًّا. نُسِبَ إِلَى الْعَرَبِ لِأَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ فَكَذَّبَ بِهِ الْأَحْزَابُ. وَقِيلَ: نَظْمُ الْآيَةِ: كَمَا أُنْزِلَتِ الْكُتُبُ عَلَى الرُّسُلِ بِلُغَاتِهِمْ، فَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ حُكْمًا عَرَبِيًّا.
{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} فِي الْمِلَّةِ. وَقِيلَ: فِي الْقِبْلَةِ، {بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} يَعْنِي: مِنْ نَاصِرٍ وَلَا حَافِظٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ} رُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ، -وَقِيلَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ-قَالُوا:
__________
(1) انظر: الطبري: 16 / 473، الدر المنثور: 4 / 658.
(2) ذكره الماوردي واختاره الزمخشري. انظر: البحر المحيط: 5 / 396، المحرر الوجيز: 8 / 179.
(3) انظر فيما سبق تفسير الآية (30) من السورة ص (318) .

الصفحة 323