كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 4)

{ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} أَيْ: قِيَامَهُ بَيْنَ يَدَيَّ كَمَا قَالَ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} (الرَّحْمَنِ -46) ، فَأَضَافَ قِيَامَ الْعَبْدِ إِلَى نَفْسِهِ، كَمَا تَقُولُ: نَدِمْتُ عَلَى ضَرْبِكَ، أَيْ: عَلَى ضَرْبِي إِيَّاكَ، {وَخَافَ وَعِيدِ} أَيْ عِقَابِي.
{وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) } .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاسْتَفْتَحُوا} أَيِ: اسْتَنْصَرُوا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْأُمَمَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ الرُّسُلُ صَادِقِينَ فَعَذِّبْنَا، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} (الْأَنْفَالِ -32) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: وَاسْتَفْتَحُوا يَعْنِي الرُّسُلَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا يَئِسُوا مِنْ إِيمَانِ قَوْمِهِمُ اسْتَنْصَرُوا اللَّهَ وَدَعَوْا عَلَى قَوْمِهِمْ بِالْعَذَابِ كَمَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} (نُوحٍ -26) وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (يُونُسَ -88) .، الْآيَةَ
{وَخَابَ} خَسِرَ. وَقِيلَ: هَلَكَ، {كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} وَالْجَبَّارُ: الَّذِي لَا يَرَى فَوْقَهُ أَحَدًا. وَالْجَبْرِيَّةُ: طَلَبُ الْعُلُوِّ بِمَا لَا غَايَةَ وَرَاءَهُ (1) . وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقِيلَ: الْجَبَّارُ: الَّذِي يُجْبِرُ الْخَلْقَ عَلَى مُرَادِهِ، وَالْعَنِيدُ: الْمُعَانِدُ لِلْحَقِّ وَمُجَانِبُهُ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: هُوَ الْمُعْرِضُ عَنِ الْحَقِّ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ الْمُتَكَبِّرُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: "الْعَنِيدُ" الَّذِي أَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (2) .
{مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} أَيْ: أَمَامَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} (الْكَهْفِ -76) أَيْ: أَمَامَهُمْ (3) .
__________
(1) ومن "الجبار"، تقول: هو جبار بين الجَبَرية، والجَبْرِيَّة والجَبَرُوُّة، والجَبَروت. انظر: تفسير الطبري: 16 / 543.
(2) انظر في هذه الأقوال: الدر المنثور: 5 / 14-15، والطبري: 16 / 543-545.
(3) وكان بعض نحويي أهل البصرة يقول: إنما يعني بقوله: "من ورائه" أي من أمامه، لأنه وراء ما هو فيه، كما يقول لك: "وكل هذا من ورائك"، أي سيأتي عليك، وهو من وراء ما أنت فيه، لأن ما أنت فيه قد كان قبل ذلك وهو من ورائه. وكان بعض نحويي أهل الكوفة يقول: أكثر ما يجوز هذا في الأوقات، لأن الوقت يمر عليك، فيصير خلفك إذا جزته ... انظر: تفسير الطبري: 16 / 547.

الصفحة 340