كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 4)

وَرُوِيَ عَنْ ثَوْبَانَ أَنَّ حَبْرًا مِنَ الْيَهُودِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ؛ قَالَ: "هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ" (1) .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَبَرَزُوا} خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ، {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ.
{وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) } .
{وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ} مَشْدُودِينَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، {فِي الْأَصْفَادِ} فِي الْقُيُودِ وَالْأَغْلَالِ، وَاحِدُهَا صَفَدٌ، وَكُلُّ مَنْ شَدَدْتَهُ شَدًا وَثِيقًا فَقَدْ صَفَّدْتَهُ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: صَفَدْتُ الرَّجُلَ فَهُوَ مَصْفُودٌ، وَصَفَّدْتُهُ بِالتَّشْدِيدِ فَهُوَ مُصَفَّدٌ.
وَقِيلَ: يُقْرَنُ كُلُّ كَافِرٍ مَعَ شَيْطَانِهِ فِي سِلْسِلَةٍ، بَيَانُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} (الصَّافَّاتِ -22) ، يَعْنِي: قُرَنَاءَهُمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مُقَرَّنَةٌ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ إِلَى رِقَابِهِمْ بِالْأَصْفَادِ وَالْقُيُودِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْحَبْلِ: قَرْنٌ.
{سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) } .
{سَرَابِيلُهُمْ} أَيْ: قُمُصُهُمْ، وَاحِدُهَا سِرْبَالُ. {مِنْ قَطِرَانٍ} هُوَ الَّذِي تَهْنَأُ بِهِ الْإِبِلُ.
وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ ويعقوب " منْ قطرآن " عَلَى كلمتين منونتين 195/ب وَالْقِطْرُ: النُّحَاسُ، وَالصُّفْرُ الْمُذَابُ، وَالْآنُ: الَّذِي انْتَهَى حَرُّهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} (الرَّحْمَنِ -44) .
{وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} أَيْ: تَعْلُو.
{لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52) } .
{لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} .
{هَذَا} أَيْ: هَذَا الْقُرْآنُ، {بَلَاغٌ} أَيْ: تَبْلِيغٌ وَعِظَةٌ، {لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا} وَلِيُخَوَّفُوا، {بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أَيْ: لِيَسْتَدِلُّوا بِهَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} أَيْ: لِيَتَّعِظَ أُولُو الْعُقُولِ.
__________
(1) قطعة من حديث طويل، أخرجه مسلم في الحيض، باب بيان صفة مني الرجل والمرأة، وأن الولد مخلوق من مائهما، برقم (315) : 1 / 252.

الصفحة 363