كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 4)

وَقِيلَ: "الْمُقْتَسِمُونَ" قَوْمٌ اقْتَسَمُوا الْقُرْآنَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سِحْرٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: شِعْرٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَذِبٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
وَقِيلَ: الِاقْتِسَامُ هُوَ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا الْقَوْلَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: سَاحِرٌ كَاهِنٌ شَاعِرٌ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانُوا سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا بَعَثَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، فَاقْتَسَمُوا عِقَابَ (1) مَكَّةَ وَطُرُقَهَا، وَقَعَدُوا عَلَى أَنْقَابِهَا يَقُولُونَ لِمَنْ جَاءَ مِنَ الْحُجَّاجِ: لَا تَغْتَرُّوا بِهَذَا الرَّجُلِ الْخَارِجِ الَّذِي يَدَّعِي النُّبُوَّةَ مِنَّا. وَتَقُولُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: إِنَّهُ مَجْنُونٌ، وَطَائِفَةٌ: إِنَّهُ كَاهِنٌ، وَطَائِفَةٌ: إِنَّهُ شَاعِرٌ، وَالْوَلِيدُ قَاعِدٌ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ نَصَّبُوهُ حَكَمًا فَإِذَا سُئِلَ عَنْهُ قَالَ: صَدَقَ (2) أُولَئِكَ [يَعْنِي] (3) الْمُقْتَسِمِينَ (4) .
وَقَوْلُهُ: {عِضِينَ} قِيلَ: هُوَ جَمْعُ عُضْوٍ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَضَيْتُ الشَّيْءَ تَعْضِيَةً، إِذَا فَرَّقْتُهُ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْقُرْآنَ أَعْضَاءً، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سِحْرٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كِهَانَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ عِضَةٍ: يُقَالُ: عِضَةٌ وَعِضِينُ مِثْلُ بِرَةٍ وَبِرِينَ وَعِزَةٍ وَعِزِينَ، وَأَصْلُهَا: عِضْهَةٌ ذَهَبَتْ هَاؤُهَا الْأَصْلِيَّةُ، كَمَا نَقَصُوا مِنَ الشَّفَةِ وَأَصْلُهَا شَفَهَةٌ، بِدَلِيلِ: أَنَّكَ تَقُولُ فِي التَّصْغِيرِ شُفَيْهَةً، وَالْمُرَادُ بِالْعِضَةِ الْكَذِبُ وَالْبُهْتَانُ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعِضِينَ الْعِضَهُ، وَهُوَ السِّحْرُ، يُرِيدُ: أَنَّهُمْ سَمَّوُا الْقُرْآنَ سِحْرًا (5) .
{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) }
{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
{عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فِي الدُّنْيَا، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ عِدَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: عَنْ قَوْلِهِ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" (6) .
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} (الرَّحْمَنِ-39) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَسْأَلُهُمْ هَلْ عَمِلْتُمْ، لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ يَقُولُ: لِمَ عَمِلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ وَاعْتَمَدَهُ قُطْرُبُ فَقَالَ: السُّؤَالُ ضَرْبَانِ، سُؤَالُ اسْتِعْلَامٍ، وَسُؤَالُ تَوْبِيخٍ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} (الرَّحْمَنِ-39)
__________
(1) عقاب: جمع عقبة، والعقبة هي المرقى الصعب من الجبال.
(2) في "ب" سل.
(3) ساقط من "ب".
(4) انظر هذه الأقوال وتخريجها في الطبري: 14 / 61-64، الدر المنثور: 5 / 98، زاد المسير: 4 / 417-418، فتح الباري: 8 / 382.
(5) انظر: زاد المسير: 4 / 418-419، الطبري: 4 / 64-66.
(6) انظر: تفسير الطبري: 14 / 67.

الصفحة 394