كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 4)

{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أَيْ هَذِهِ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ. وَهِيَ مَصْدَرٌ كَالنَّشَاءَةِ وَالدَّنَاءَةِ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ، كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَرْجُفُونَ الْأَرَاجِيفَ وَجَعَلَ الْمُشْرِكُونَ يَنْقُضُونَ عُهُودًا كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِنَقْضِ عُهُودِهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً" الْآيَةَ (الْأَنْفَالِ -58) .
قَالَ الزَّجَّاجُ: بَرَاءَةٌ أَيْ: قَدْ بَرِئَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ مِنْ إِعْطَائِهِمُ الْعُهُودَ وَالْوَفَاءِ لَهُمْ بِهَا إِذَا نَكَثُوا.
{إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الْخِطَابُ مَعَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي عَاهَدَهُمْ وَعَاقَدَهُمْ، لِأَنَّهُ عَاهَدَهُمْ وَأَصْحَابُهُ رَاضُونَ بِذَلِكَ، فَكَأَنَّهُمْ عَاقَدُوا وَعَاهَدُوا.
{فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} رَجَعَ مِنَ الْخَبَرِ إِلَى الْخِطَابِ، أَيْ: قُلْ لَهُمْ: سِيحُوا، أَيْ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ، مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ، آمِنِينَ غَيْرَ خَائِفِينَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} أَيْ: غَيْرُ فَائِتِينَ وَلَا سَابِقِينَ، {وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} أَيْ: مُذِلُّهُمْ بِالْقَتْلِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا التَّأْجِيلِ وَفِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَرِئَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْعُهُودِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فَقَالَ جَمَاعَةٌ: هَذَا تَأْجِيلٌ مِنَ الله تعالى 152/ألِلْمُشْرِكِينَ، فَمَنْ كَانَتْ مُدَّةُ عَهْدِهِ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفَعَ النَّاسُ رُءُوسَهُمْ وَظَنُّوا أَنَّهَا قَدْ أَتَتْ حَقِيقَةً فَنَزَلَتْ {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} فَاطْمَأَنُّوا (1) .
وَالِاسْتِعْجَالُ: طَلَبُ الشَّيْءِ قَبْلَ حِينِهِ.
وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ، وَإِنْ كَادَتْ لَتَسْبِقُنِي" (2) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ بَعْثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَهْلِ السَّمَوَاتِ مَبْعُوثًا إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: اللَّهُ أَكْبَرُ قَامَتِ السَّاعَةُ.
وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ هَاهُنَا: عُقُوبَةُ الْمُكَذِّبِينَ وَالْعَذَابُ بِالسَّيْفِ وَذَلِكَ أَنَّ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ، فَاسْتَعْجَلَ الْعَذَابَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (3) . وَقُتِلَ النَّضْرُ يَوْمَ بَدْرٍ صَبْرًا.
{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} مَعْنَاهُ تَعَاظَمَ بِالْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ عَمَّا يَصِفُهُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ.
{يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) }
{يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ} قَرَأَ الْعَامَّةُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ، وَ {الْمَلَائِكَةَ} نَصْبٌ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِالتَّاءِ وَفَتْحِهَا وَفَتْحِ الزَّايِ وَ" الْمَلَائِكَةُ " رَفْعٌ، {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ} بِالْوَحْيِ، سَمَّاهُ رُوحًا لِأَنَّهُ يُحْيِيِ بِهِ الْقُلُوبَ وَالْحَقَّ.
قَالَ عَطَاءٌ: بِالنُّبُوَّةِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: بِالرَّحْمَةِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "بِالرُّوحِ" يَعْنِي مَعَ الرُّوحِ، وَهُوَ جِبْرِيلُ. {مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا} أَعْلِمُوا: {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مُرُوهُمْ بِقَوْلِ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" مُنْذِرِينَ مُخَوِّفِينَ بِالْقُرْآنِ إِنْ لَمْ يَقُولُوا.
__________
(1) أخرجه الواحدي في "أسباب النزول" ص (321) بدون إسناد، وبمعناه أخرجه الطبري: 14 / 75، وانظر: الدر المنثور: 5 / 108، القرطبي: 10 / 66.
(2) أخرجه الإمام أحمد في "المسند": 2 / 50، قال ابن حجر في "الفتح": 11 / 348: "أخرجه أحمد والطبري وسنده حسن". وأصل الحديث في البخاري، كتاب الرقاق: 11 / 347، وفي مسلم في كتاب الفتن: 4 / 2268. وأخرجه المصنف في شرح السنة: 15 / 98.
(3) أسباب النزول للواحدي ص (321) .

الصفحة 8