كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 5)

{يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) }
{يَتَوَارَى} أَيْ: يَخْتَفِي، {مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} مِنَ الْحُزْنِ وَالْعَارِ، ثُمَّ يَتَفَكَّرُ: {أَيُمْسِكُهُ} ذَكَرَ الْكِنَايَةَ رَدًّا عَلَى "مَا" {عَلَى هُونٍ} أَيْ: هَوَانٌ، {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} 200/ب أَيْ: يُخْفِيهِ مِنْهُ، فَيَئِدُهُ.
وَذَلِكَ: أَنْ مُضَرَ وَخُزَاعَةَ وَتَمِيمًا كَانُوا يَدْفِنُونَ الْبَنَاتِ أَحْيَاءً، خَوْفًا مِنَ الْفَقْرِ عَلَيْهِمْ، وَطَمَعِ غَيْرِ الْأَكْفَاءِ فِيهِنَّ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنَ الْعَرَبِ إِذَا وُلِدَتْ لَهُ بِنْتٌ وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَحْيِيَهَا: أَلْبَسَهَا جُبَّةً مِنْ صُوفٍ أَوْ شَعْرٍ، وَتَرَكَهَا تَرْعَى لَهُ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ فِي الْبَادِيَةِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهَا: تَرَكَهَا حَتَّى إِذَا صَارَتْ سُدَاسِيَّةً، قَالَ لِأُمِّهَا: زَيِّنِيهَا حَتَّى أَذْهَبَ بِهَا إِلَى أَحْمَائِهَا، وَقَدْ حَفَرَ لَهَا بِئْرًا فِي الصَّحْرَاءِ، فَإِذَا بَلَغَ بِهَا الْبِئْرَ قَالَ لَهَا: انْظُرِي إِلَى هَذِهِ الْبِئْرِ، فَيَدْفَعُهَا مِنْ خَلْفِهَا فِي الْبِئْرِ، ثُمَّ يُهِيلُ عَلَى رَأْسِهَا التُّرَابَ حَتَّى يَسْتَوِيَ الْبِئْرُ بِالْأَرْضِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ}
وَكَانَ صَعْصَعَةُ عَمُّ الْفَرَزْدَقِ إِذَا أَحَسَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَجَّهَ إِلَى وَالِدِ الْبِنْتِ إِبِلًا يُحْيِيهَا بِذَلِكَ، فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ يَفْتَخِرُ بِهِ (1) . وَعَمِّي الَّذِي مَنَعَ الْوَائِدَاتِ ... فَأَحْيَا الْوَئِيدَ فَلَمْ تُوأَدِ
{أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} بِئْسَ مَا يَقْضُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ وَلِأَنْفُسِهِمُ الْبَنِينَ، نَظِيرُهُ: "أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى" (النَّجْمِ-22) ، وَقِيلَ: بِئْسَ حُكْمُهُمْ وَأْدُ الْبَنَاتِ. {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} يَعْنِي لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَصِفُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ وَلِأَنْفُسِهِمُ الْبَنِينَ {مَثَلُ السَّوْءِ} صِفَةُ السُّوءِ مِنَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الْوَلَدِ، وَكَرَاهِيَةِ الْإِنَاثِ، وَقَتْلِهِنَّ خَوْفَ الْفَقْرِ، {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} الصِّفَةُ الْعُلْيَا، وَهِيَ التَّوْحِيدُ وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
وَقِيلَ: جَمِيعُ صِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْكَمَالِ، مِنَ الْعِلْمِ، وَالْقُدْرَةِ، وَالْبَقَاءِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الصِّفَاتِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "مَثَلُ السَّوْءِ": النَّارُ، وَ"الْمَثَلُ الْأَعْلَى": شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 10 / 117.

الصفحة 25