كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 5)
وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْقَوْلُ اللَّيِّنُ: أَنَّ مُوسَى أَتَاهُ وَوَعَدَهُ عَلَى قَبُولِ الْإِيمَانِ شَبَابًا لَا يُهْرَمُ، وَمُلْكًا لَا يُنْزَعُ مِنْهُ إِلَّا بِالْمَوْتِ، وَتَبْقَى عَلَيْهِ لَذَّةُ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَنْكَحِ إِلَى حِينِ مَوْتِهِ، وَإِذَا مَاتَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ وَكَانَ لَا يَقْطَعُ أَمْرًا دُونَ هَامَانَ، وَكَانَ غَائِبًا فَلَمَّا قَدِمَ أَخْبَرَهُ بِالَّذِي دَعَاهُ إِلَيْهِ مُوسَى، وَقَالَ أَرَدْتُ أَنْ أَقْبَلَ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ هَامَانُ: كُنْتُ أَرَى أَنَّ لَكَ عَقْلًا وَرَأْيًا، أَنْتَ رَبٌّ، تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مَرْبُوبًا؟ وَأَنْتَ تُعْبَدُ تُرِيدُ أَنْ تَعْبُدَ؟ فَقَلَبَهُ عَنْ رَأْيِهِ (1) .
وَكَانَ هَارُونُ يَوْمَئِذٍ بِمِصْرَ، فَأَمْرَ اللَّهُ مُوسَى أَنْ يَأْتِيَ هَارُونَ وَأَوْحَى إِلَى هَارُونَ وَهُوَ بِمِصْرَ أَنْ يَتَلَقَّى مُوسَى، فَتَلَقَّاهُ إِلَى مَرْحَلَةٍ، وَأَخْبَرَهُ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ (2) .
{لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} أَيْ: يَتَّعِظُ وَيَخَافُ فَيُسْلِمُ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} وَقَدْ سَبَقَ عِلْمُهُ أَنَّهُ لَا يَتَذَكَّرُ وَلَا يُسْلِمُ؟.
قِيلَ: مَعْنَاهُ اذْهَبَا عَلَى رَجَاءٍ مِنْكُمَا وَطَمَعٍ، وَقَضَاءُ اللَّهِ وَرَاءَ أَمْرِكُمَا.
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: هُوَ يَنْصَرِفُ إِلَى غَيْرِ فِرْعَوْنَ، مَجَازُهُ: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ مُتَذَكِّرٌ، وَيَخْشَى خَاشٍ إِذَا رَأَى بِرِّي وَأَلْطَافِي بِمَنْ خَلَقْتُهُ وَأَنْعَمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَرَّاقُ: "لَعَلَّ " مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ (3) وَلَقَدْ تَذَكَّرَ فِرْعَوْنُ وَخَشِيَ حِينَ لَمْ تَنْفَعْهُ الذِّكْرَى وَالْخَشْيَةُ، وَذَلِكَ حِينَ أَلْجَمَهُ الْغَرَقُ، قَالَ: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَرَأَ رَجُلٌ عِنْدَ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ هَذِهِ الْآيَةَ: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} فَبَكَى يَحْيَى، وَقَالَ: إِلَهِي هَذَا رِفْقُكَ (4) بِمَنْ يَقُولُ أَنَا الْإِلَهُ، فَكَيْفَ رِفْقُكَ (5) بِمَنْ يَقُولُ أَنْتَ الْإِلَهُ؟! (6) .
__________
(1) انظر في هذه الأقوال ونسبتها: الطبري: 16 / 169، الدر المنثور: 5 / 580، زاد المسير: 5 / 287 - 288. وأقرب هذه الأقوال في تفسير القول اللين؛ أن الله تعالى أمرهما أن يقولا كلاما لطيفا سهلا رقيقا، ليس فيه ما يغضب وينفر. وقد بين الله جل وعلا المراد بالقول اللين في هذه الآية بقوله: "اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى". وهذا غاية لين الكلام ولطافته ورقته. وهو قول مقاتل، كما تقدم. انظر: تفسير ابن كثير 3 / 154، أضواء البيان: 5 / 413.
(2) انظر: زاد المسير: 5 / 289.
(3) تفسير القرطبي: 11 / 201. وانظر: الاتقان للسيوطي: 2 / 275 - 276 ففيه معاني حرف "لعل" في القرآن الكريم.
(4) في "ب": برك.
(5) في "ب": برك.
(6) تفسير القرطبي: 11 / 201.
الصفحة 275