كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 5)

وَهُمَا الرَّعْيُ بِلَا رَاعٍ، {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} أَيْ: كَانَ ذَلِكَ بِعِلْمِنَا وَمَرْأَى مِنَّا لَا يَخْفَى عَلَيْنَا عِلْمُهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: جَمَعَ اثْنَيْنِ، فَقَالَ لِحُكْمِهِمْ وَهُوَ يُرِيدُ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ جَمْعٌ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} (النِّسَاءِ: 11) ، وَهُوَ يُرِيدُ أَخَوَيْنِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلَيْنِ دَخَلَا عَلَى دَاوُدَ أَحَدُهُمَا صَاحِبُ حَرْثٍ وَالْآخَرُ صَاحِبُ غَنَمٍ، فَقَالَ صَاحِبُ الزَّرْعِ: إِنَّ هَذَا انْفَلَتَتْ غَنَمُهُ لَيْلًا وَوَقَعَتْ فِي حَرْثِي فَأَفْسَدَتْهُ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ، فَأَعْطَاهُ دَاوُدُ رِقَابَ الْغَنَمِ بِالْحَرْثِ، فَخَرَجَا فَمَرَّا عَلَى سُلَيْمَانَ فَقَالَ: كَيْفَ قَضَى بَيْنَكُمَا فَأَخْبَرَاهُ فَقَالَ سُلَيْمَانُ: لَوْ وُلِّيتُ أَمْرَهُمَا لَقَضَيْتُ بِغَيْرِ هَذَا.
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ غَيْرُ هَذَا أَرْفَقُ بِالْفَرِيقَيْنِ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ دَاوُدُ فَدَعَاهُ فَقَالَ كَيْفَ تَقْضِي؟ وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ بِحَقِّ النُّبُوَّةِ وَالْأُبُوَّةِ إِلَّا أَخْبَرْتَنِي بِالَّذِي هُوَ أَرْفَقُ بِالْفَرِيقَيْنِ، قَالَ: ادْفَعِ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِ الْحَرْثِ يَنْتَفِعُ بِدَرِّهَا وَنَسْلِهَا وَصُوفِهَا وَمَنَافِعِهَا وَيَبْذُرُ صَاحِبُ الْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْحَرْثِ مِثْلَ حَرْثِهِ، فَإِذَا صَارَ الْحَرْثُ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ أُكِلَ دُفِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَأَخَذَ صَاحِبُ الْغَنَمِ غَنَمَهُ، فَقَالَ دَاوُدُ الْقَضَاءُ مَا قَضَيْتَ وَحَكَمَ بِذَلِكَ (1) .
وَقِيلَ: إِنَّ سُلَيْمَانَ يَوْمَ حَكَمَ كَانَ ابْنَ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَمَّا حُكْمُ الْإِسْلَامِ [فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ] (2) أَنَّ مَا أَفْسَدَتِ الْمَاشِيَةُ الْمُرْسَلَةُ بِالنَّهَارِ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى رَبِّهَا، وَمَا أَفْسَدَتْ بِاللَّيْلِ ضَمِنَهُ رَبُّهَا لِأَنَّ فِي عُرْفِ النَّاسِ أَنَّ أَصْحَابَ الزَّرْعِ يَحْفَظُونَهُ بِالنَّهَارِ، وَالْمَوَاشِي تَسْرَحُ بِالنَّهَارِ وَتُرَدُّ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَرَاحِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرْخَسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي شِهَابٍ، عَنْ حَرَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطًا فَأَفْسَدَتْهُ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتِ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ ضَمَانُهُ عَلَى أَهْلِهَا، وَذَهَبَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ إِلَى أَنَّ الْمَالِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا أَتْلَفَتْ مَاشِيَتُهُ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا (3) .
__________
(1) أخرج هاتين الروايتين الطبري: 17 / 51 - 54، وانظر: تفسير ابن كثير: 3 / 187.
(2) زيادة من "ب".
(3) أخرجه أبو داود في البيوع، باب: المواشي تفسد زرع قوم: 5 / 202، وعزاه المنذري للنسائي في الكبرى، وابن ماجه في الأحكام، باب: الحكم فيما أفسدت المواشي برقم (2333) 2 / 781، ورواه الإمام مالك في الموطأ مرسلا: 2 / 747 - 748، وأحمد: 4 / 295، وعبد الرزاق 10 / 82، والبيهقي 8 / 341 - 342. قال: ابن عبد البر في التمهيد: 11 / 81 - 82، هكذا رواه جميع رواة الموطأ - فيما علمت - مرسلا، وكذلك رواه أصحاب ابن شهاب عن ابن شهاب مرسلا إلا أن ابن عيينة رواه عن الزهري عن سعيد بن المسيب وحرام بن سعد بن محيصة. . . ثم قال: هذا الحديث وإن كان مرسلا فهو حديث مشهور أرسله الأئمة وحدث به الثقات واستعمله فقهاء الحجاز وتلقوه بالقبول، وجرى في المدينة به العمل، وقد زعم الشافعي أنه تتبع مراسيل سعيد بن المسيب فألفاها صحاحا وأكثر الفقهاء يحتجون بها. وقال ابن التركماني في الجوهر النقي: 8 / 342 اضطرب إسناد هذا الحديث اضطرابا شديدا، واختلف فيه على الزهري على سبعة أوجه ذكرها ابن القطان.

الصفحة 332