كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 5)

وَرُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَسَدٍ وَغَطَفَانَ، دَعَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْيَهُودِ حِلْفٌ، وَقَالُوا: لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نُسْلِمَ لِأَنَّا نَخَافُ أَنْ لَا يُنْصَرَ مُحَمَّدٌ وَلَا يَظْهَرَ أَمْرُهُ فَيَنْقَطِعُ الْحِلْفُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْيَهُودِ، فَلَا يميروننا ولا +يئوننا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (1) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "النَّصْرُ" بِمَعْنَى الرِّزْقِ (2) وَالْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى {مَنْ} وَمَعْنَاهُ: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. نَزَلَتْ فِيمَنْ أَسَاءَ الظَّنَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَخَافَ أَلَّا يَرْزُقَهُ اللَّهُ، "فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ"، أَيْ: إِلَى سَمَاءِ الْبَيْتِ، فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ فِعْلُهُ ذَلِكَ مَا يَغِيظُ، وَهُوَ خِيفَةُ أَنْ لَا يُرْزَقَ.
وَقَدْ يَأْتِي النَّصْرُ بِمَعْنَى الرِّزْقِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: مَنْ يَنْصُرْنِي نَصَرَهُ اللَّهُ. أَيْ: مَنْ يُعْطِنِي أَعْطَاهُ اللَّهُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: تَقُولُ الْعَرَبُ: أَرْضٌ مَنْصُورَةٌ، أَيْ: مَمْطُورَةٌ.
قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَنَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ: "ثُمَّ لِيَقْطَعْ" "ثُمَّ لِيَقْضُوا" بِكَسْرِ اللَّامِ، وَالْبَاقُونَ بِجَزْمِهَا لِأَنَّ الْكُلَّ لَامُ الْأَمْرِ، زَادَ ابْنُ عَامِرٍ {وَلِيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلِيَطَّوَّفُوا} (الحَجِّ: 29) بِكَسْرِ اللَّامِ فِيهِمَا، وَمَنْ كَسَرَ فِي: "ثُمَّ لِيَقْطَعْ" وَفِي "ثُمَّ لِيَقْضُوا" فَرَّقَ بِأَنَّ ثُمَّ مَفْصُولٌ مِنَ الْكَلَامِ، وَالْوَاوُ كَأَنَّهَا مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ كَالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: "فَلْيَنْظُرْ".
__________
(1) ذكره الطبري: 17 / 128 بدون سند.
(2) 24 / ب.
{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) }
{وَكَذَلِكَ} أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ، يَعْنِي: مَا تَقَدَّمَ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ، {أَنْزَلْنَاهُ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} يَعْنِي: عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ،، {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} {أَلَمْ تَرَ} أَلَمْ تَعْلَمْ، وَقِيلَ: {أَلَمْ تَرَ} [تَقْرَأْ] (1) بِقَلْبِكَ {أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ}
__________
(1) زيادة من "ب".

الصفحة 371