كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 5)

مَعَاصِي اللَّهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ، وَتَعْظِيمُهَا تَرْكُ مُلَابَسَتِهَا. قَالَ اللَّيْثُ: حُرُمَاتُ اللَّهِ مَا لَا يَحِلُّ انْتِهَاكُهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْحُرْمَةُ مَا وَجَبَ الْقِيَامُ بِهِ وَحَرُمَ التَّفْرِيطُ فِيهِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْحُرُمَاتِ هَاهُنَا: الْمَنَاسِكُ، بِدَلَالَةِ مَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْحُرُمَاتُ هَاهُنَا: الْبَيْتُ الْحَرَامُ، وَالْبَلَدُ الْحَرَامُ وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ، وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَالْإِحْرَامُ (1) . {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} أَيْ: تَعْظِيمُ الْحُرُمَاتِ، خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ} أَنْ تَأْكُلُوهَا إِذَا ذَبَحْتُمُوهَا وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} تَحْرِيمُهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} (المَائِدَةِ: 3) ، الْآيَةَ، {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} أَيْ: عِبَادَتَهَا، يَقُولُ: كُونُوا عَلَى جَانِبٍ مِنْهَا فَإِنَّهَا رِجْسٌ، أَيْ: سَبَبُ الرِّجْسِ، وَهُوَ الْعَذَابُ، وَالرِّجْسُ: بِمَعْنَى الرِّجْزِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: {مِنْ} هَاهُنَا لِلتَّجْنِيسِ أَيْ: اجْتَنِبُوا الْأَوْثَانَ الَّتِي هِيَ رِجْسٌ، {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} يَعْنِي: الْكَذِبَ وَالْبُهْتَانَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: شَهَادَةُ الزُّورِ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالشِّرْكِ بِاللَّهِ"، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ (2) . وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ.
__________
(1) انظر الطبري: 17 / 153.
(2) أخرجه أبو داود في الأقضية، باب في شهادة الزور: 5 / 217، والترمذي في الشهادات 6 / 585، وقال: (هذا حديث إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد - يعني حديث خريم بن فاتك - وقد اختلفوا في رواية هذا الحديث عن سفيان بن زياد ولا نعرف لأيمن بن خريم سماعا من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) . وابن ماجه في الأحكام، باب: شهادة الزور رقم (2372) ، 2 / 794، والإمام أحمد: 4 / 178.
{حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) }
{حُنَفَاءَ لِلَّهِ} مُخْلِصِينَ لَهُ، {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} قَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا فِي الشِّرْكِ يَحُجُّونَ، وَيُحْرِمُونَ الْبَنَاتِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ حُنَفَاءَ، فَنَزَلَتْ: "حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ" أَيْ: حُجَّاجًا لِلَّهِ مُسْلِمِينَ مُوَحِّدِينَ، يَعْنِي: مَنْ أَشْرَكَ لَا يَكُونُ حَنِيفًا.
{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ} أَيْ: سَقَطَ، {مِنَ السَّمَاءِ} إِلَى الْأَرْضِ، {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} أَيْ: تَسْتَلِبُهُ الطَّيْرُ وَتَذْهَبُ بِهِ، وَالْخَطْفُ وَالِاخْتِطَافُ: تَنَاوُلُ الشَّيْءِ بِسُرْعَةٍ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: فَتَخَطَّفُهُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ، أَيْ: يَتَخَطَّفُهُ، {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ} أَيْ: تَمِيلُ وَتَذْهَبُ بِهِ، {فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}

الصفحة 383