كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 5)

{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) }
{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} وَحَقُّهَا مَا رُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانِهِ أَوْ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ فَيُقْتَلُ بِهَا" (1) .
{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} أَيْ: قُوَّةً وَوِلَايَةً عَلَى الْقَاتِلِ بِالْقَتْلِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَالَ الضَّحَاكُ: سُلْطَانُهُ هُوَ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ فَإِنْ شَاءَ اسْتَقَادَ مِنْهُ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ وَإِنْ شَاءَ عَفَا.
{فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: " فَلَا تُسْرِفْ " بِالتَّاءِ يُخَاطِبُ وَلِيَ الْقَتِيلِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: بِالْيَاءِ عَلَى الْغَائِبِ أَيْ: لَا يُسْرِفُ الْوَلِيُّ فِي الْقَتْلِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْإِسْرَافِ الَّذِي مُنِعَ مِنْهُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ لَا يَقْتُلُ غَيْرَ الْقَاتِلِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا قُتِلَ مِنْهُمْ قَتِيلٌ لَا يَرْضَوْنَ بِقَتْلِ قَاتِلِهِ حَتَّى يَقْتُلُوا أَشْرَفَ مِنْهُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِذَا كَانَ الْقَاتِلُ وَاحِدًا فَلَا يَقْتُلْ جَمَاعَةً بَدَلَ وَاحِدٍ وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَ الْمَقْتُولُ شَرِيفًا لَا يَرْضَوْنَ بِقَتْلِ الْقَاتِلِ [وَحْدَهُ] (2) حَتَّى يَقْتُلُوا مَعَهُ جَمَاعَةً مِنْ أَقْرِبَائِهِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ لَا يُمَثِّلُ بِالْقَاتِلِ (3) .
{إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} فَالْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَقْتُولِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا} يَعْنِي: إِنَّ الْمَقْتُولَ مَنْصُورٌ فِي الدُّنْيَا بِإِيجَابِ الْقَوَدِ عَلَى قَاتِلِهِ وَفِي الْآخِرَةِ بِتَكْفِيرِ خَطَايَاهُ وَإِيجَابِ النَّارِ لِقَاتِلِهِ هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: الْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى وَلِيِّ الْمَقْتُولِ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ مَنْصُورٌ عَلَى الْقَاتِلِ بِاسْتِيفَاءِ الْقَصَاصِ مِنْهُ أَوِ الدِّيَةِ.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الديات باب الإمام يأمر بالعفو في الدم: 6 / 301، عن أبي أمامة والترمذي في الفتن باب ما جاء لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: 3 / 373، وقال: حديث حسن وابن ماجه في الحدود باب لا يحل دم امرئ مسلم إلا في ثلاث برقم (2533) : 2 / 847، والمصنف في شرح السنة: 10 / 148. وأخرج الشيخان عن ابن مسعود نحوه.
(2) زيادة من "ب".
(3) وهذه الأوجه في تأويل الآية غير خارجة عن الصواب وكلها تندرج في معنى الآية وفي النهي عن الإسراف في القتل. والله أعلم.

الصفحة 91