كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 7)
الْجُذَامُ، وَكَانَ مَنْزِلُهُ عِنْدَ أَقْصَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ مُؤْمِنًا ذَا صَدَقَةٍ يَجْمَعُ كَسْبَهُ إِذَا أَمْسَى فَيَقْسِمُهُ نِصْفَيْنِ فَيُطْعِمُ نِصْفًا لِعِيَالِهِ وَيَتَصَدَّقُ بِنِصْفٍ، (1) فَلَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ قَوْمَهُ قَصَدُوا قَتْلَ الرُّسُلِ جاءهم {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}
{اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) }
{اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ حَبِيبٌ فِي غَارٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ (2) فَلَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ الرُّسُلِ أَتَاهُمْ فَأَظْهَرَ دِينَهُ، فَلَمَّا انْتَهَى حَبِيبٌ إِلَى الرُّسُلِ قَالَ لَهُمْ: تَسْأَلُونَ عَلَى هَذَا أَجْرًا؟ قَالُوا: لَا فَأَقْبَلَ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: "يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ"، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ قَالُوا لَهُ: وَأَنْتَ مُخَالِفٌ لِدِينِنَا وَمُتَابِعٌ دِينَ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ وَمُؤْمِنٌ بِإِلَهِهِمْ؟ فَقَالَ:
{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} قَرَأَ حمزة ويعقوب: "مالي" بِإِسْكَانِ الْيَاءِ، وَالْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا. قِيلَ: أَضَافَ الْفِطْرَةَ إِلَى نَفْسِهِ وَالرُّجُوعَ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْفِطْرَةَ أَثَرُ النِّعْمَةِ، وَكَانَتْ عَلَيْهِ أَظْهَرَ، وَفِي الرُّجُوعِ مَعْنَى الزَّجْرِ وَكَانَ بِهِمْ أَلْيَقَ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا قَالَ: اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، أَخَذُوهُ فَرَفَعُوهُ إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَفَأَنْتَ تتبعهم؟ فقال: "ومالي لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي" وَأَيُّ شَيْءٍ لِي إِذَا لَمْ أَعْبُدِ الْخَالِقَ {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تُرَدُّونَ عِنْدَ الْبَعْثِ فَيَجْزِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ.
{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، أَيْ: لَا أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً، {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} بِسُوءٍ وَمَكْرُوهٍ، {لَا تُغْنِ عَنِّي} لَا تَدْفَعُ عَنِّي، {شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} أَيْ: لَا شَفَاعَةَ لَهَا أَصْلًا فَتُغْنِي {وَلَا يُنْقِذُونِ} مِنْ ذَلِكَ الْمَكْرُوهِ وَقِيلَ: لَا يُنْقِذُونِ مِنَ الْعَذَابِ لَوْ عَذَّبَنِي اللَّهُ إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ. {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} خَطَأٍ ظَاهِرٍ.
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير: 3 / 569.
(2) انظر: ابن كثير: 3 / 569.
الصفحة 14
459