كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 7)
{بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) }
{بَلْ عَجِبْتَ} قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِضَمِّ التَّاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْعَجَبُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ كَالتَّعَجُّبِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ، كَمَا قَالَ: "فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ" (التَّوْبَةِ -79) ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: "نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ" (التَّوْبَةِ -67) ، فَالْعَجَبُ مِنَ الْآدَمِيِّينَ: إِنْكَارُهُ وَتَعْظِيمُهُ، وَالْعَجَبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ وَالذَّمِّ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الِاسْتِحْسَانِ وَالرِّضَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "عَجِبَ رَبُّكُمْ مِنْ شَابٍّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ" (1) .
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "عَجِبَ رَبُّكُمْ مِنْ سُؤَالِكُمْ وَقُنُوطِكُمْ وَسُرْعَةِ إِجَابَتِهِ إِيَّاكُمْ" (2)
وَسُئِلَ الْجُنَيْدُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَعْجَبُ مِنْ شَيْءٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ وَافَقَ رَسُولَهُ لَمَّا عَجِبَ رَسُولُهُ فَقَالَ: "وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ" (الرَّعْدِ -5) أَيْ: هُوَ كَمَا تَقُولُهُ.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى خِطَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْ: عَجِبْتَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ، {وَيَسْخَرُونَ} مِنْ تَعَجُّبِكَ.
قَالَ قَتَادَةُ: عَجِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ حِينَ أُنْزِلَ وَضَلَالِ بَنِي آدَمَ (3) ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْمَعُ الْقُرْآنَ يُؤْمِنُ بِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْمُشْرِكُونَ الْقُرْآنَ سَخِرُوا مِنْهُ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، فَعَجِبَ مِنْ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ".
{وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ} أَيْ: إِذَا وُعِظُوا بِالْقُرْآنِ لَا يَتَّعِظُونَ.
{وَإِذَا رَأَوْا آيَةً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي انْشِقَاقَ الْقَمَرِ {يَسْتَسْخِرُونَ} يَسْخَرُونَ وَيَسْتَهْزِءُونَ، وَقِيلَ: يَسْتَدْعِي بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ السُّخْرِيَةَ.
{وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [يَعْنِي سِحْرٌ بَيِّنٌ] (4) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد: 4 / 151، قال ابن الديبع الشيباني في تمييز الطيب من الخبيث ص (51) : "رواه القضاعي في مسنده من حديث ابن لهيعة بسنده عن عقبة بن عامر مرفوعا، وكذا هو عند أحمد وأبي يعلى، وإسناده حسن، وضعفه ابن حجر لأجل ابن لهيعة".
(2) في المطبوع: "عجب ربكم من ألكم ... " رواه أبو عبيد في الغريب عن محمد بن عمر يرفعه، ثم قال: "الأل": رفع الصوت بالدعاء، وقال: بعضهم يرويه الأول، وهو الشدة. انظر: الكافي الشاف: ص (141) .
(3) انظر: الطبري 23 / 44، الدر المنثور: 7 / 83، تفسير ابن كثير: 4 / 5.
(4) زيادة من "ب".
الصفحة 36