كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 7)

كَحُبُكِ الْمَاءِ إِذَا ضَرَبَتْهُ الرِّيحُ، وَحُبُكِ الرَّمْلِ وَالشَّعْرِ الْجَعْدِ، وَلَكِنَّهَا لَا تُرَى لِبُعْدِهَا مِنَ النَّاسِ، وَهِيَ جَمْعُ حِبَاكٍ وَحَبِيكَةٍ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ قَوْلُهُ:
{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) }
{إِنَّكُمْ} أَيْ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ، {لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} فِي الْقُرْآنِ وَفِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَقُولُونَ فِي الْقُرْآنِ: سِحْرٌ وَكِهَانَةٌ وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَفِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَاحِرٌ وَشَاعِرٌ وَمَجْنُونٌ. وَقِيلَ: "لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ" أَيْ: مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ.
{يُؤْفَكَ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} يُصْرَفُ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ مِنْ صُرِفَ حَتَّى يُكَذِّبَهُ، يَعْنِي: مَنْ حَرَمَهُ اللَّهُ الْإِيمَانَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْقُرْآنِ. وَقِيلَ "عَنْ" بِمَعْنَى: مِنْ أَجْلِ، أَيْ يُصْرَفُ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْقَوْلِ الْمُخْتَلِفِ أَوْ بِسَبَبِهِ عَنِ الْإِيمَانِ مَنْ صَرَفَ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَلَقَّوْنَ الرَّجُلَ إِذَا أَرَادَ الْإِيمَانَ فَيَقُولُونَ: إِنَّهُ سَاحِرٌ وَكَاهِنٌ وَمَجْنُونٌ، فَيَصْرِفُونَهُ عَنِ الْإِيمَانِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ.
{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} لُعِنَ الْكَذَّابُونَ، يُقَالُ: تَخَرَّصَ عَلَى فُلَانٍ الْبَاطِلَ، وَهُمُ الْمُقْتَسِمُونَ الَّذِينَ اقْتَسَمُوا عِقَابَ مَكَّةَ، وَاقْتَسَمُوا الْقَوْلَ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَصْرِفُوا النَّاسَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ الْكَهَنَةُ.
{الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ} غَفْلَةٍ وَعَمًى وَجَهَالَةٍ، {سَاهُونَ} لَاهُونَ غَافِلُونَ عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَالسَّهْوُ: الْغَفْلَةُ عَنِ الشَّيْءِ، وَهُوَ ذَهَابُ الْقَلْبِ عَنْهُ.
{يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} يَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ مَتَى يَوْمُ الْجَزَاءِ، يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَكْذِيبًا وَاسْتِهْزَاءً.
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ هُمْ} أَيْ يَكُونُ هَذَا الْجَزَاءُ فِي يَوْمٍ هُمْ، {عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} أَيْ: يُعَذَّبُونَ وَيُحْرَقُونَ بِهَا كَمَا يُفْتَنُ الذَّهَبُ بِالنَّارِ. وَقِيلَ: "عَلَى" بِمَعْنَى الْبَاءِ أَيْ بِالنَّارِ، وَتَقُولُ لَهُمْ خَزَنَةُ النَّارِ: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} .
{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} عَذَابَكُمْ، {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} فِي الدُّنْيَا تَكْذِيبًا بِهِ.
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) }
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ} أَعْطَاهُمْ، {رَبُّهُمْ} مِنَ الْخَيْرِ وَالْكَرَامَةِ، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ} قبل 139/ب دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ، {مُحْسِنِينَ} فِي الدُّنْيَا.
{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} وَالْهُجُوعُ النَّوْمُ بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ، "وَمَا" صِلَةٌ، وَالْمَعْنَى: كَانُوا يَهْجَعُونَ قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ، أَيْ يُصَلُّونَ أَكْثَرَ اللَّيْلِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَانَ اللَّيْلُ الَّذِي يَنَامُونَ فِيهِ كُلُّهُ قَلِيلًا وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، يَعْنِي: كَانُوا قَلَّ لَيْلَةٌ تَمُرُّ بِهِمْ إِلَّا صَلَّوْا فِيهَا شَيْئًا، إِمَّا مِنْ أَوَّلِهَا أَوْ مِنْ أَوْسَطِهَا. قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: كَانُوا يُصَلُّونَ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ (1) . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: كَانُوا لَا يَنَامُونَ حَتَّى يُصَلُّوا الْعَتَمَةَ (2) . قَالَ مُطْرِفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ: قَلَّ لَيْلَةٌ أَتَتْ عَلَيْهِمْ هَجَعُوهَا كُلَّهَا (3) . قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا لَا يَنَامُونَ كُلَّ اللَّيْلِ (4) .
وَوَقَفَ بَعْضُهُمْ عَلَى قَوْلِهِ: "قَلِيلًا" أَيْ: كَانُوا مِنَ النَّاسِ قَلِيلًا ثُمَّ ابْتَدَأَ: "مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ"، وَجَعَلَهُ جَحْدًا أَيْ: لَا يَنَامُونَ بِاللَّيْلِ الْبَتَّةَ، بَلْ يَقُومُونَ لِلصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ. {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} قَالَ الْحَسَنُ: لَا يَنَامُونَ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا أَقَلَّهُ، وَرُبَّمَا نَشِطُوا فَمَدُّوا إِلَى السَّحَرِ، ثُمَّ أَخَذُوا بِالْأَسْحَارِ فِي الِاسْتِغْفَارِ (5) . وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: وَبِالْأَسْحَارِ يُصَلُّونَ، وَذَلِكَ أَنَّ صَلَاتَهُمْ بِالْأَسْحَارِ لِطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُخْلِدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ
__________
(1) أخرجه أبو داود: 2 / 95، الطبري: 26 / 196، محمد بن نصر المروزي في قيام الليل ص (71) من مختصر المقريزي. والبيهقي في السنن: 3 / 19، وذكره ابن كثير في التفسير: 4 / 234.
(2) أخرجه الطبري: 26 / 196، ومحمد بن نصر المروزي في قيام الليل ص (25) من مختصر المقريزي وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 615 أيضًا لابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه.
(3) أخرجه الطبري: 26 / 197، ومحمد بن نصر في قيام الليل صفحة: (25) من مختصر المقريزي، وابن كثير: 4 / 234.
(4) أخرجه محمد بن نصر المرزوي في قيام الليل صفحة (24) من مختصر المقريزي.
(5) أخرجه الطبري: 26 / 198؛ ومحمد بن نصر المروزي في قيام الليل ص (81) من مختصر المقريزي.

الصفحة 372