كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 7)

مِنْ قَبْلِ كُفَّارِ مَكَّةَ، {مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} . 140/ب
{أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) }
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ} ، أَيْ: أَوْصَى أَوَّلُهُمْ آخِرَهُمْ وَبَعْضُهُمْ بعضًا بالتكذيب وتواطؤا عَلَيْهِ؟ وَالْأَلْفُ فِيهِ لِلتَّوْبِيخِ، {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَمَلَهُمُ الطُّغْيَانُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُمْ وَوَسَّعْتُ عَلَيْهِمْ عَلَى تَكْذِيبِكَ، {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} ، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، {فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} ، لَا لَوْمَ عَلَيْكَ فَقَدْ أَدَّيْتَ الرِّسَالَةَ وَمَا قَصَّرْتَ فِيمَا أُمِرْتَ بِهِ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَظَنُّوا أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، وَأَنَّ الْعَذَابَ قَدْ حَضَرَ إِذْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَوَلَّى عَنْهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} ، فَطَابْتُ أَنْفُسُهُمْ (1) .
قَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ عِظْ بِالْقُرْآنِ كُفَّارَ مَكَّةَ، فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ مَنْ [سَبَقَ] (2) فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنْ يُؤْمِنَ مِنْهُمْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: عِظْ بِالْقُرْآنِ مَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِكَ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُهُمْ.
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ، قَالَ الْكَلْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَسُفْيَانُ: هَذَا خَاصٌّ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ -مِنَ الْمُؤْمِنِينَ -إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"، ثُمَّ قَالَ فِي أُخْرَى: "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ"، (الْأَعْرَافِ-79) .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَمَا خَلَقْتُ السُّعَدَاءَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِلَّا لِعِبَادَتِي وَالْأَشْقِيَاءَ مِنْهُمْ إِلَّا لِمَعْصِيَتِي، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: هُوَ عَلَى مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: "إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" أَيْ إِلَّا لِآمُرَهُمْ أَنْ يَعْبُدُونِي وَأَدْعُوَهُمْ إِلَى عِبَادَتِي، يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا". (التَّوْبَةِ-31) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِلَّا لِيَعْرِفُونِي. وَهَذَا أَحْسَنُ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخْلُقْهُمْ لَمْ يُعْرَفْ وُجُودُهُ وَتَوْحِيدُهُ، دَلِيلُهُ: قَوْلُهُ
__________
(1) أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده عن مجاهد، وسكت عنه البوصيري وقال: "رواه أحمد بن منيع بسند رواته ثقات"، وأخرجه الطبري عن قتادة. انظر: المطالب العالية: 3 / 378 مع حاشية المحقق، تفسير الطبري: 27 / 11.
(2) ساقط من "أ".

الصفحة 380