كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 7)
عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ وَأَقَامَتْ وَاحِدَةً عَلَى طَرَفِ الْحَافِرِ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ، يُقَالُ: صَفَنَ الْفَرَسُ يَصْفِنُ صُفُونًا: إِذَا قَامَ عَلَى ثَلَاثَةِ قَوَائِمَ، وَقَلَبَ أَحَدَ حَوَافِرِهِ. وَقِيلَ: الصَّافِنُ فِي اللُّغَةِ الْقَائِمُ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقُومَ لَهُ الرِّجَالُ صُفُونًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" (1) . أَيْ قِيَامًا وَالْجِيَادُ: الْخِيَارُ السِّرَاعُ، وَاحِدُهَا جَوَادٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ الْخَيْلَ السَّوَابِقَ.
{فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) }
{فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} أَيْ: آثَرْتُ حُبَّ الْخَيْرِ، وَأَرَادَ بِالْخَيْرِ الْخَيْلَ، وَالْعَرَبُ تُعَاقِبُ بَيْنَ الرَّاءِ وَاللَّامِ، فَتَقُولُ: خَتَلْتُ الرَّجُلَ وَخَتَرْتُهُ، أَيْ: خَدَعْتُهُ، وَسُمِّيَتِ الْخَيْلُ خَيْرًا لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ، الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ (2) ، قَالَ مُقَاتِلٌ: حُبُّ الْخَيْرِ يَعْنِي: الْمَالَ، فَهِيَ الْخَيْلُ الَّتِي عُرِضَتْ عَلَيْهِ. {عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} يَعْنِي: عَنِ الصَّلَاةِ وَهِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} أَيْ: تَوَارَتِ الشَّمْسُ بِالْحِجَابِ (3) اسْتَتَرَتْ بِمَا يَحْجُبُهَا عَنِ الْأَبْصَارِ، يُقَالُ: الْحَاجِبُ جَبَلٌ دُونَ قَافٍ، بِمَسِيرَةِ سَنَةٍ، وَالشَّمْسُ تَغْرُبُ مِنْ وَرَائِهِ.
{رُدُّوهَا عَلَيَّ} أَيْ: رُدُّوا الْخَيْلَ عَلَيَّ، فَرَدُّوهَا، {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: طَفِقَ يَفْعَلُ، مِثْلُ: مَا زَالَ يَفْعَلُ، وَالْمُرَادُ بِالْمَسْحِ: الْقَطْعُ، فَجَعَلَ يَضْرِبُ سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا بِالسَّيْفِ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَمُقَاتِلٍ، وَأَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ (4) وَكَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا لَهُ، لِأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ يَقْدَمُ عَلَى مُحَرَّمٍ، وَلَمْ يَكُنْ يَتُوبُ عَنْ ذَنْبٍ بِذَنْبٍ آخَرَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمْ يُعَنِّفْهُ اللَّهُ عَلَى عَقْرِ الْخَيْلِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَسَفًا عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ فَرِيضَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الأدب، باب في قيام الرجل للرجل: 8 / 92 - 93، والترمذي في الأدب، باب: ما جاء في كراهية قيام الرجل للرجل: 8 / 30 وقال: "هذا حديث حسن" والإمام أحمد: 4 / 100 والطبراني في الكبير: 19 / 351 - 352 وابن أبي شيبة في المصنف: 8 / 586، وصححه الألباني في تعليقه على المشكاة: 3 / 1332.
(2) أخرج البخاري: 6 / 54، ومسلم: 3 / 1494 عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "البركة في نواصي الخيل" وأخرج مسلم: 3 / 1943 عن جرير رضي الله عنه - مرفوعا -: "الخيل معقود بنواصيها الخير إلي يوم القيامة: الأجر والغنيمة".
(3) قال الحافظ ابن حجر: الثابت عن جمهور أهل العلم بالتفسير من الصحابة ومن بعدهم أن الضمير المؤنث في قوله: (ردوها عليَّ) للخيل والله أعلم.
(4) انظر: الطبري: 23 / 156 وزاد المسير: 7 / 131، معاني القرآن للفراء: 2 / 405، القرطين لابن مطرف: 2 / 102، معاني القرآن للنحاس: 6 / 112، تفسير ابن كثير: 4 / 35.
الصفحة 89