كتاب تفسير البغوي - طيبة (اسم الجزء: 8)
{فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) }
{فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ} قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ: "تُؤْخَذُ" بِالتَّاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ {فِدْيَةٌ} بَدَلٌ وَعِوَضٌ بِأَنْ تَفْدُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْعَذَابِ {وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ} صَاحِبُكُمْ وَأَوْلَى بِكُمْ، لِمَا أَسْلَفْتُمْ مِنَ الذُّنُوبِ {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ سَأَلُوا سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالُوا: حَدِّثْنَا عَنِ التَّوْرَاةِ فَإِنَّ فِيهَا الْعَجَائِبَ فَنَزَلَتْ: "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ" (يُوسُفَ -3) فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ أَحْسَنُ قَصَصًا مِنْ غَيْرِهِ، فَكَفُّوا عَنْ سُؤَالِ سَلْمَانَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ عَادُوا فَسَأَلُوا سَلْمَانَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ فَنَزَلَ: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا" (الزُّمَرِ -23) فَكَفُّوا عَنْ سُؤَالِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ عَادُوا فَقَالُوا: حَدِّثْنَا عَنِ التَّوْرَاةِ فَإِنَّ فِيهَا الْعَجَائِبَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، قَوْلُهُ "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ" يَعْنِي فِي الْعَلَانِيَةِ وَبِاللِّسَانِ.
وَقَالَ آخَرُونَ نَزَلَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ (1) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبْنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: " أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ" إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ (2) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ اسْتَبْطَأَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ فَعَاتَبَهُمْ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ نِزُولِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: "أَلَمْ يَأْنِ" (3) أَلَمْ يَحِنْ لِلَّذِينِ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ: تَرِقَّ وَتَلِينَ وَتَخْضَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ {وَمَا نَزَلَ} قَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِتَخْفِيفِ الزَّايِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِتَشْدِيدِهَا {مِنَ الْحَقِّ} وَهُوَ الْقُرْآنُ {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ} الزَّمَانُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِمْ {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَالُوا إِلَى الدُّنْيَا وَأَعْرَضُوا
__________
(1) انظر: الواحدي في أسباب النزول: ص 470.
(2) أخرجه مسلم في التفسير، باب في قوله تعالى: "ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله" برقم: (3027) : 4 / 2319.
(3) ساقه ابن كثير في التفسير: 4 / 311 من رواية ابن المبارك، وابن أبي حاتم، وفيه صالح المري، وهو ضعيف. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 58 لابن أبي حاتم، وابن مردويه.
الصفحة 37