كتاب جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم (اسم الجزء: 1)

مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬١). فمدح الأنصار بأنهم لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتي المهاجرون، أي لا يجدون في أنفسهم طلبًا لما أنعمه الله عليهم، بل نفوسهم غنية، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس الغِنَى عن كثرة العَرَضِ، وإنما الغِنَى غِنَى النفس" (¬٢). والحاسد والحريصُ أنفُسُهم فقيرة محتاجة لا غِنًى فيها، فالحاسد شر من البخيل، والمحسن إلى الناس أفضل من المستغني الذي لا يُحسِنُ. ولهذا جاء في الحديث (¬٣): "الصدقة تُطفِئُ الخطيئةَ كما يُطفِئُ الماءُ النارَ، والحسدُ يأكُلُ الحسناتِ كما تأكُلُ النارُ الحطبَ".
والحسدُ يكون على المال والجاهِ جميعًا، كما قد يكون على الدين والعلم، قال الله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (٥٤)} (¬٤)، وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (¬٥). وإذا أحب أن يحصل له من الخير الذي حَبَاه الله تعالى مثلما حصل لغيره من غير زوال تلك النعمة عنه، فهذا غبطة، ويُسمَّى حسدًا لكنه حسن. كما في الصحيحين (¬٦) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه
---------------
(¬١) سورة الحشر: ٩.
(¬٢) أخرجه البخاري (٦٤٤٦) ومسلم (١٠٥١) عن أبي هريرة.
(¬٣) أخرجه ابن ماجه (٤٢١٠) عن أنى. وفي الباب عن معاذ بن جبل وجابر وغيرهما.
(¬٤) سورة النساء: ٥٤.
(¬٥) سورة البقرة: ١٠٩.
(¬٦) البخاري (٧١٤١) ومسلم (٨١٦) عن ابن مسعود.

الصفحة 52